عندما نظمت روسيا مطلع شهر مارس المنصرم استفتاءً تحت فوهة البنادق بالقرم وضمت شبه الجزيرة إلى ترابها، فقد كانت تؤسس، حسب موسكو دائماً، لـ«حقائق سياسية وقانونية جديدة»، أو بمعنى آخر إقامة نموذج روسي غير مسبوق يؤسس لعالم من الفوضى وانعدام القانون. وكما عبرت عن ذلك المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في مداخلة لها أمام البرلمان الألماني، في 13 مارس الفائت، تحاول روسيا إحياء قانون الغاب من جديد. وبالنسبة لهؤلاء من الذين خبروا مساعي بوتين لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وقلب ما يعتبره «أكبر كارثة جيوسياسية»، وهي انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن ما يجري في أوكرانيا ليس غريباً، بل لا يمثل حتى الفصل الأخير من الدراما التي يشرف عليها بوتين شخصياً. وإذا كان من الواضح الآن أن خطة بوتين الأولية للسيطرة على أوكرانيا من خلال تعبئة السكان الروس هناك قد فشلت فشلاً ذريعاً، فإن ذلك لا يعني تخليه عن تطلعاته، لاسيما في ظل حديث الخبراء الاستراتيجيين الروس عن «نهاية أسبوع من الغضب» يمكن أن تتحول إلى اقتحام للمباني والمنشآت الحيوية في المناطق الشرقية ومحاصرتها. وفي حال نجح هؤلاء المحرضون المحليون في الاستيلاء على تلك المنشآت فقد تتدخل روسيا عسكرياً بدعوى حماية الأقليات بهدف تثبيت الوضع القائم على غرار ما حدث في القرم، وهو أمر يجب ألا نستبعده أو يفاجئنا عندما يتعلق الأمر بتحركات روسيا في جوارها. وهنا يمكن للتاريخ أن يتحول إلى دليل مهم يسعف السياسيين، أولا لتفادي كوارث جديدة، وثانياً للتفاعل الإيجابي مع تلك الكوارث التي ستحدث في جميع الأحوال رغم كل الخطط الاستباقية. لكن دروس التاريخ تلك لم تمنع السياسيين من تكرار الأخطاء، ففي الشيشان على سبيل المثال قُتل عشرات الآلاف لا لشيء سوى لتثبيت سلطة بوتين وتعزيز مكانته، ثم عندما اندلعت الثورات الملونة وما فتحته من آفاق واعدة بالإصلاح السياسي، تحولت إلى تهديد لحكمه ونُظر إليها في موسكو على هذا الأساس، فكانت ردة الفعل الأولى اجتياح جورجيا لوأد احتمالات تمدد الثورات وكبح مفعول العدوى الذي يخشى منه بوتين. واليوم، وأمام تهديدات جديدة مثل تآكل شعبيته في روسيا والاكتشافات الهائلة للغاز الصخري في أميركا الشمالية، والحاجة إلى ممر بحري دائم إلى البحر المتوسط لإمداد حلفائه في الشرق الأوسط، قرر بوتين أن الوقت قد حان للانقضاض على القرم بالنظر إلى حيوية موقعها الاستراتيجي. لكن رغم تعدد الأمثلة والنماذج، يواصل الغرب سوء فهمه، وأحياناً تبريره لاعتداءات بوتين، ففي هذه الأيام ينشغل المحللون بالبحث عن أخطاء الغرب والتفتيش في دواخلهم عن الأسباب مثل القول إن الغرب بالغ في التمدد شرقاً من خلال حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، مستفزاً الدب الروسي دون داعٍ، وهم بذلك يخلصون إلى أن جزءاً من سلوك روسيا يمكن تفسيره بالنشاط الغربي المحموم على حدودها ليتحول الأمر إلى نوع من جلد الذات يمارسه الغرب على نفسه ويفهمه بوتين على أنه ضعف غربي يشجعه على التمادي أكثر. ولعلنا لا ننسى شخصيات تاريخية مثل «نفيل شامبرلين» الذي دعا إلى التهدئة مع هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية عندما احتل جزءاً من تشيكوسلوفاكيا، واليوم أسمع حديثاً مماثلاً في الغرب عن «تنافر المصالح» بين روسيا والغرب، ما يعني أنه يحق لموسكو ضم أرض تابعة لبلدان مجاورة فقط لأن مصلحتها في تلك الأراضي تفوق مصلحة الغرب، فيما يجادل الآخرون بأنه علينا توطين أنفسنا على أن القرم باتت جزءاً من روسيا. وقد سمعت الكلام نفسه عندما استولت موسكو على مناطق تابعة لجورجيا عام 2008! والأخطر أن هذا النوع من التهدئة والتخاذل يمتد إلى ما هو أخطر، كما يخبرنا التاريخ، بحيث يرجع نفس المحللين ليقروا بإذعان أن مولدوفيا «فُقدت» للأبد، وأن لاتفيا «لم تعد موجودة»، وغيرها من التبريرات، لكن الضحية الأكبر للتخاذل الغربي ليست الدول التي ستخسر جزءاً من أراضيها وتُنتهك سيادتها، بل الأفكار والمبادئ التي يقوم عليها العالم والتي ترسخت على مدى عقود طويلة. والحقيقة أن جورجيا وأوكرانيا ومولدوفيا إنما تعاقبها روسيا لرغبة هذه الدول في العيش بحرية ضمن مجتمعات ديمقراطية، وهو النموذج المختلف تماماً عن المسار الذي يروجه بوتين. فموسكو لم تهتم من قبل بمصير الأقليات الروسية في جوارها القريب طالما كانت تحكمها النخب الفاسدة المرتهنة للكرملين، لكن عندما بدأت تلك البلدان في التطلع للغرب، ليس لدواع جيوسياسية، بل فقط ترجمة لرغبة شعبية، قررت روسيا التدخل، وهو ما يحتم على الغرب حماية تلك البلدان لأن الأمر هنا لا يتعلق بعوامل برجماتية بقدر ما يتعلق بالمبادئ والقيم التي تتوق إليها أغلب المجتمعات الناجحة في التاريخ الإنساني. وحتى لا تغيب عنا الحقائق الواضحة، تمثل روسيا التحدي الأكبر للقانون الدولي منذ غزوها لأفغانستان عام 1979. ورغم أن الغرب يبقى متفوقاً على روسيا اقتصادياً وعسكرياً أكثر مما كان عليه مع الاتحاد السوفييتي، فإن القادة الغربيين اليوم أكثر تردداً في توظيف هذا الخلل البين في موازين القوة. ولعل السبب هو الالتباس الذي يكرسه المحللون والخبراء لدى السياسيين والقادة الغربيين، وهو أمر ناجم بدوره عن خلط هؤلاء الخبراء بين القيادة السوفييتية العقائدية والنخبة الفاسدة حالياً، بحيث يقلل الغربيون من أهمية الارتباط الكبير لتلك النخبة بالغرب واشتباك مصالحها مع مدنه ومصارفه، لذا يمكن للعقوبات الاقتصادية الجادة أن تحدث شرخاً في أوساط النخبة الروسية وتشتت الدائرة المحيطة ببوتين. لكن رغم هذه الحقيقة، وبصرف النظر عن تصريحات أوباما وخطابه الصارم، يبدو الغرب، وبالأخص أوروبا، متردداً في فرض عقوبات قاسية. فخلافاً لفترة الحرب الباردة، ترى الشركات الغربية في روسيا سوقاً يمكن الاستفادة منه، ما يعني أنه عليهم الانخراط في نظام العقوبات ودفع الثمن، وهو ما لم يتضح حتى الآن. فبعد الجولة الأولى من العقوبات التي فُرضت على موسكو، عادت الأسواق إلى عافيتها بعدما تأكد المستثمرون أن الغرب ليس جاداً في معاقبة روسيا، فكيف للغرب أن يتوقع من بوتين أخذ تهديداته على محمل الجد بينما «وول ستريت» نفسها لم تصدق جدية التحالف الغربي في مواجهة روسيا؟ لتبقى المعضلة الأساسية تتأرجح بين استعداد الغرب لدفع الثمن اليوم، أو تأجيله القرار ودفع الفاتورة مضاعفة في المستقبل. ميخائيل ساكاشفيلي رئيس جورجيا في الفترة بين 2004 و2013 ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»