أعتقد أن تنظيم منتدى «تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»؛ الأسبوع الماضي، في أبوظبي والاقتراحات التي صدرت عنه، لاسيما ذلك البند الخاص برعاية دولة الإمارات فعاليات المنتدى المستقبلية، كان واحداً من الأخبار والأحداث الإيجابية التي باتت نادرة للإنسان المسلم والعربي. إن مثل هذا الحدث، بلا شك، من حيث المعاني التي يحملها، كان ينتظره الكثيرون من المراقبين في العالم الإسلامي وخارجه، لأنه دليل حقيقي على رغبة سياسية حقيقية في انتشال الإسلام وأفراده من الذين يسيئون إليه، وبالتالي تكون مسألة إعادة الدين الإسلامي إلى أفراد المجتمع باعتباره قيمة إيمانية وإنسانية، ويكون إبعاده عن السياسة هو أكبر إنجاز لخدمة الإسلام والمسلمين. كان الإسلام في السابق، وقبل اختطافه من السياسيين كأيديولوجية، عامل قوة للمجتمع، فحققت المجتمعات الإسلامية نهضة تعليمية وحضارية كبيرة. وحتى عهد قريب كان الإسلام عامل قوة للكثير من المجتمعات؛ خاصة تلك التي فيها أكثر من طائفة؛ وليس عامل ضعف كما يحث اليوم. متصدرو الفتوى من «أشباه العلماء»، كما وصفهم الشيخ عبدالله بن زايد، وزير الخارجية، في كلمته الافتتاحية التي كانت جريئة ومباشرة وابتعدت عن لغة العموميات، هؤلاء استغلوا وسائل الإعلام المحلية (في الدول العربية) والأجنبية، وتسببوا بطريقتهم في تسهيل قضية إلصاق الإرهاب والتطرف بالدين الإسلامي؛ وباتت المقولة التاريخية للذين يدخلون الإسلام حديثاً «حمداً لله، أسلمت قبل أن أتعرف على المسلمين» متكررة بسبب تسييس الدين. لقد صار من يعتنق الإسلام في أي مكان في العالم محل توجس من الآخرين، وصار الشك في تصرفاته أيضاً مسألة عادية يمكن أن تسمعها من الآخرين، بل إن أي جريمة ترتكب فإن الشكوك الأولية تحوم حول المسلمين بغض النظر عن الجهة التي قدِموا منها، سواء أكانت الخليج أم آسيا الوسطى. هؤلاء أسمعوا العالم أنهم ممثلون للإسلام لأنهم كانوا الأكثر ظهوراً في الساحة الإعلامية؛ في مقابل العلماء المعتدلين الذين كانوا الأقل فرصة في الظهور، والذين سمح لهم منتدى تعزيز السلم الاجتماعي بإيصال صوتهم، بل إن أولئك المتشددين عملوا خلال فترة تمتد لأكثر من أربعين عاماً على «تشويه» الإدراك العام لدى الرأي العام، حتى بات الأمر وكأن الأمة الإسلامية لا يوجد فيها غير الإسلام المتطرف؛ فكان من الصعب اختراق أو إيجاد ثغرة كي تعيد التفكير الصحيح في المجتمع حتى صار «إقصاء» الآخر بغض النظر عن من هو، أحد معايير التدين الصحيح، وهو أمر يتنافى مع الواقع المجتمعي الذي يعرفه الجميع في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية. وقد وصل الأمر بنا إلى أنه لا يمكن أن تكون مسلماً حقاً إذا لم تستخدم لغة التشدد أو بالأصح التكفير والإقصاء، بل تعتبر مطعوناً في تدينك. لهذا فإن مبادرة دولة الإمارات بعقد هذا المنتدى كانت مهمة. أخذت دولة الإمارات العربية المتحدة، ومنذ زمن، على عاتقها مسألة إبراز الإسلام المعتدل، وهو «الإسلام الحقيقي» من خلال العديد من المنابر. بعضها في الداخل باعتبارها قاعدة للانطلاق للخارج، وأبرزها «جامع الشيخ زايد» الذي يقوم بدور تنويري عن الدين الإسلامي. وبعضها في الخارج؛ من خلال بناء مساجد للمسلمين لتقوم بدور أكبر من كونها مساجد؛ خاصة في مناطق عرف عنها بأنها «بؤر التطرف» مثل أفغانستان. وفي التفاصيل فإنه من خلال ما تعيشه دولة الإمارات من نهضة تنموية اقتصادية تؤكد أن التماسك الداخلي سبب مهم للتطور، لاسيما أن الجميع يدرك بأن الإمارات تستضيف أكثر من 200 جنسية، وبالتالي فإن مسألة اختلاف الأديان والطوائف موجودة، ومع ذلك فالجميع يعيش في استقرار. أعتقد أن الواقع «المر» الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية بسبب المفتين المتشددين أساء إلى الرسالة الحقيقية للإسلام ومنع المسلمين من الاستفادة من الآخرين عبر «الاحتكاك الحضاري» مع الآخر دون إقصائه. رسالة المنتدى كانت واضحة، وهي أنه عندما تصل الأمور إلى أن يكون منطق التشدد والتطرف هو الأقرب للدين الإسلامي، فإن الأمر يحتاج من أصحاب القرار وقفة حقيقية، خاصة في دعم الجانب الإيجابي باعتبار أن أفراد المجتمع لديهم الوعي الكافي لأن يفرقوا بين الاثنين. وهذا ما فعلته دولة الإمارات؛ لأنه لا سبيل للتهاون مع الذين لا يرون في الإسلام إلا ما يعبر عن صوتهم. على اعتبار أن أي فوضى نتيجتها الطبيعية تراجع التنمية بجميع أشكالها: السياسية والاقتصادية والمجتمعية. كما أن رسالة المنتدى وضحت أن تجربة الإمارات الناجحة كفيلة بأن تؤكد معنى سماحة الدين في رقي المجتمعات، كما أن تراجع «صوت المتشددين» في هذه الأيام كفيل بأن يعزز المعنى ذاته. قد لا يكون المنتدى هو أول ملتقى لتوضيح سماحة الإسلام باعتبار أن هناك ما يعرف بـ«حوار الحضارات» وغيرها من الفعاليات التي ظهرت بعد فترة الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ لكن القياس هنا على شفافية الإمارات ووضوحها في الخطاب الرسمي الذي ألقاه الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وهو عامل مهم في معالجة المشكلة. والقياس أيضاً على عدد الحضور (250 عالماً مسلماً من كل الطوائف الإسلامية)؛ لأن الصورة العامة لحالة المسلمين في أنحاء العالم تبدو حزينة ومريرة بسبب إقصاء الآخر أو التكفير، أقربها ذلك الخطاب على منبر صلاة الجمعة الأخيرة في البحرين؛ حيث أفتى الإخواني البحريني جلال الشرقي بتكفير حكام الخليج. وفي الحقيقة، فإن التعامل مع المتشدد بهدوء لم يعد كافياً بعدما مست المجتمعات من الداخل. عربياً، أظهرت تداعيات ما يسمى «الربيع العربي» خطورة السماح للمفتين المتشددين بتدمير المجتمعات، وخاصة في ليبيا وتونس ومصر والتي راحت ضحيتها أرواح كثيرة من الناس، بل أرسلت خطابات تمزيق للمجتمع خاصة؛ ولعل خير مثال على ذلك المؤتمر الذي انعقد في القاهرة بحضور الرئيس المعزول مرسي لدعم سوريا، والذي أظهر مدى خطورة ترك موضوع الفتوى في أيدي من يستغلون الدين لأهداف سياسية. وأظهرت تداعيات استسهال الفتوى المتطرفة أنها كانت حاضرة في العديد من الملفات الحياتية بما فيها الكرة، والسينما، والثقافة؛ فساهمت في إزكاء العداوات بين أفراد المجتمع. أختم بأن الهدف الأساسي للمنتدى كان توضيح حقائق الدين الإسلامي التي غابت عن الناس وأدت إلى أن يكون العنف أو الإرهاب هو الأقرب في أذهانهم إلى الدين الإسلامي منه إلى التعايش السلمي والتسامح بين أفراد المجتمع الواحد.