في أجواء دبلوماسية مألوفة تماماً، اجتمعت القوى العظمى في العالم وإيران في فيينا للتوصل إلى اتفاق نووي شامل. ومثل هذه الطقوس الدبلوماسية يسود فيها كلام رفيع المستوى ومنمق عن التفاهم المتبادل والتنازلات المتبادلة. وجميع الأطراف سيُطلب منها أن تتخلى عن مطالبها المتطرفة لأن أفضل ما يمكن تحقيقه هو اتفاق مبهم يترك إيران دون أسلحة نووية لكن بعد أن قطعت خطوات كبيرة باتجاه امتلاك قدرات نووية. وتفتقر مثل هذه الحسابات التي تبدو حصيفة لحقيقة أن الولايات المتحدة لاتتعامل مع الاتحاد السوفييتي لكن مع قوة متوسطة محاصرة قد تُجبر قسراً على تقديم تنازلات أكبر. وفي أكثر من عقد من الدبلوماسية النووية دأب بعض المحللين على النصح لواشنطن بأن تسعى إلى التوصل إلى حل وسط يتنازل عن بعض الجوانب المهمة في البرنامج النووي الإيراني. فالمطالب الزائدة كما يعتقدون سوف تخلق صدعاً في التحالف الديمقراطي الذي خلق نظاماً مؤثراً للعقوبات. بالإضافة إلى هذا، بحسب ما يعتقدون، فإن طهران قد تترك طاولة المفاوضات مما يخلق شبح صراع آخر في الشرق الأوسط. فمخاوف حلفاء الولايات المتحدة من إيران والمزاج العاطفي لرجال الدين في إيران بنفس أهمية مبادئ منع الانتشار النووي. وتخلص هذه الطريقة في التفكير إلى أن الاتفاق النووي قد لا يكون مثالياً لكنه سيحافظ على تماسك التحالف ويفرض بعض القيود المهمة على مسار إيران النووي. وتخطئ مثل هذه المسلمات في فهم جاذبية التجارة الأميركية وتفوق القوة الأميركية. صحيح أن العقوبات الأوروبية تقوم بدور مكمل لا يمكن الاستغناء عنه إلى جانب الجهود الأميركية لاستنزاف خزائن إيران. لكن إذا أصرت واشنطن على شروط نووية خانقة فمن غير المرجح أن يستأنف الأوروبيون الاستثمارات على نطاق واسع في إيران. فمشروعات القوانين التي أقرها الكونجرس ووقعها أوباما لها نتيجة ثانوية، ففي حال تفعيلها، لن يُسمح لأي بنك أوروبي أو شركة نفطية تبرم اتفاقاً مع إيران بالدخول إلى أسواق الولايات المتحدة. فالحجم الكبير للاقتصاد الأميركي سيتفوق دوماً على أي اتفاقات تقدمها طهران. ومن المؤكد أن مديري الشركات الاقتصادية الأوروبية سيضجون بالشكوى وسوف توبخ الصفوة الأوروبية المثقفة الولايات المتحدة ويصفونها بأنها قوة عظمى متعجرفة، لكن في نهاية المطاف سيذعنون للنواهي الأميركية. ويشير البعض إلى أن «الخطوط الحمراء» الأساسية لخامنئي يجب أخذها في الاعتبار لأنه من غير المرجح تعديلها. وسيكون من الحكمة ألا يصر المفاوضون الغربيون على أن تشحن إيران مخزونها من اليورانيوم خارج البلاد أو تغلق منشآتها النووية الكثيرة. وربما جعل صعود البراجماتيين مثل روحاني إيران مستعدة لقبول حلول وسط لكن خامنئي مازال يتوارى خلف المعتدلين ووصاياه الأساسية يتعين احترامها. والمرشد الإيراني الأعلى وحواريوه المتشددون كابدوا ضغوط العقوبات الاقتصادية الشديدة ومخاوف التهديدات بشن عمليات انتقام عسكرية وقد يكونون مستعدين أخيراً للتوصل إلى توافق مع الغرب لكنهم لن يتخلوا عن طموحاتهم النووية كلية. ففي سبيل التوصل إلى اتفاق يجب على المفاوضين ألا يصنعوا صورة مثالية للعدو الجيد. لكن قراءة عن قرب للمشهد السياسي الإيراني على مدى السنوات القليلة الماضية تكشف عن أن خطوط خامنئي الأكثر أهمية لا تتعلق بالقضايا النووية لكن بمنع المعتدلين من استعادة الفوز بالقوة السياسية. ففي أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 2009 قضى خامنئي السنوات الأربع التالية في توبيخ ما أطلق عليهم المحرضين واتهم الإصلاحيين بالتواطوء مع الغرب لتقويض الدولة الدينية. وأصبحت كلمات الحبائل والمؤامرات والطابور الخامس والمدمرين من الأعمدة الرئيسية في خطب خامنئي. وكان المرشد الأعلى يبذل فيما يبدو كل ما في وسعه لمنع وقوع منصب الرئيس من جديد في أيدي أولئك الذين لا ينصاعون لأغلاله الأيديولوجية. ثم جاءت انتخابات عام 2013 لتتحول فيها مشاعر الإيرانيين إلى حد كبير بعيداً عن وجهة النظر المحافظة. وقبل خامنئي رئاسة روحاني على مضض لأنه واجه احتمال فرض الخطوط الحمراء عبر أعمال عنف هائلة. وربما لا يكون روحاني براجماتياً لكنه حصيف فعندما يواجه تحديات حقيقية لسلطته سوف يتراجع عن مواقفه واضحة المعالم. لا توجد نهاية مقبولة لمعضلة إيران النووية إلا بتسوية سلمية. ومع الأخذ في الاعتبار التفاوت في القوة بين إيران والولايات المتحدة، فأمام واشنطن فرصة للتوصل إلى اتفاق قادر على الصمود للتحكم في الأسلحة النووية مع الإبقاء على نفوذها القسري. وهذه هي مزايا كون أميركا قوة عظمى صاحبة أكبر اقتصاد في العالم وتمتعها بتحالفات قوية. لكن كي يحدث هذا يتعين على الولايات المتحدة أن تتوقف عن التقليل من قيمة قوتها وعن المبالغة في مدى صمود خصمها. وعلى مدى عقد من المفاوضات المتقطعة مع القوى العالمية، رفضت إيران مزاعم دول غربية بأنها تسعى لامتلاك قدرات تسلح نووي. وتقول طهران إن نشاطها النووي يستهدف توليد الكهرباء ولاستخدامه في الأغراض الطبية. وتحدت طهران مطالب لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم والأنشطة النووية الأخرى مما جعل المنظمة الدولية والولايات المتحدة تفرضان عقوبات أضرت بشدة باقتصاد الدولة المنتجة للنفط. ويقول دبلوماسيون ومحللون إن جنوح خامنئي إلى مواصلة المفاوضات مع القوى الغربية رغم شكوكه التي يشترك فيها مع مؤيديه المتشددين سببه تردي الأوضاع الاقتصادية. وتستهدف الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بالمفاوضات إطالة المدة التي تحتاجها طهران لإنتاج ما يكفي من المادة الانشطارية التي يمكن استخدامها في صنع القنابل النووية. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»