في مقر الجيش الباكستاني بمدينة راولبندي القريبة من العاصمة إسلام آباد، ترأس نواز شريف، رئيس الوزراء الباكستاني، حفل تنصيب الجنرال رحيل شريف قائداً أعلى للقوات المسلحة الباكستانية، والذي أدى اليمين الدستورية ليتولى رسمياً مهام منصبه الجديد، يوم الجمعة الماضي، خلفاً للجنرال أشفق كياني الذي سيحال للتقاعد خلال الأسبوع القادم. ويأتي صعود الجنرال شريف إلى رأس المؤسسة العسكرية الباكستانية، الجهة الأكثر نفوذاً داخل البلاد، في ظل مؤشرات على عودة التصعيد مع حركة «طالبان» الباكستانية، وتصاعد التوتر التقليدي مع الهند حول إقليم كشمير، وبالتزامن مع الاستعدادات المتواصلة لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. والجنرال شريف، المولود في كويتا عام 1956، ضابط بارز في سلاح المشاة الباكستاني، يتمتع بسمعة الرجل العسكري المستقيم والجندي المهني، لم تعرف عنه أي طموحات سياسية، بل يُعتقد أنه يفضل رؤية جيش باكستاني حِرفي متفرغ لمهامه الدفاعية، بعد عقود مرهقة من توريطه في معارك سياسية أضرت بمسيرة البلاد ولم تفده. وربما يمثل تعيين الجنرال شريف في منصبه الجديد إشارة إلى استمرارية التوجه الذي أرساه كياني للمؤسسة العسكرية الباكستانية، وخلاصته تقليص دورها في الحياة السياسية، وانصرافها نحو مواجهة التحديات الأمنية الداخلية. وقد أدى نأي الجيش بنفسه عن السياسة، خلال الانتخابات التشريعية في مايو الماضي، إلى تسهيل أول عملية انتقال ديمقراطي حقيقية في تاريخ البلاد بين حكومة أنهت ولايتها (خمس سنوات) وحكومة أخرى جديدة منتخبة. كما أن تقليص الحشد العسكري قرب خطوط التماس الملتهبة مع الهند، انعكس إيجاباً في ميزان الصراع ضد حركات التمرد المسلحة، وعلى رأسها «طالبان» الباكستانية التي تقاتل الجيش في منطقة القبائل المتاخمة لأفغانستان. ويأتي الجنرال شريف من عائلة عسكرية بامتياز؛ فوالده كان جنرالا في الجيش الباكستاني، وكذلك شقيقه الجنرال صابر شريف الذي منح أرفع وسام عسكري بعد مقتله خلال الحرب مع الهند عام 1971. أما الجنرال رحيل نفسه، فانضم إلى القوات المسلحة عام 1976، وتخرّج من الأكاديمية العسكرية في لاهور، وبدأ خدمته العسكرية ضابطاً في لواء المشاة، ثم تلقى دورة حول القيادة العسكرية في ألمانيا، وأخرى في كندا، قبل أن يتخرج بامتياز من الكلية الملكية لدراسات الدفاع في المملكة المتحدة. وكان آخر منصب تبوأه شريف هو المفتش العام للتدريب في مقر القوات المسلحة في روالبندي، كما رأس الأكاديمية العسكرية الباكستانية. وفي كلا المنصبين كان شريف على صلة بتقييم الاستراتيجية الحربية للجيش وتصميم برامج التدريب المستقبلية، حيث لعب دوراً أساسياً في تغيير التفكير العسكري الباكستاني منذ عام 2007، ليصبح اهتمام الجيش متجهاً نحو قتال «طالبان» بدلا من العدو التقليدي الهند. ومن موقعه كمفتش عام للتدريب، أعاد الجنرال شريف تصميم برامج التدريب لتلائم مواجهة الإرهاب الداخلي، وطوّر برامج تدريبية لعمليات مواجهة المسلحين، ووضع الكثير من تلك البرامج موضع التطبيق. كما يعود الفضل للجنرال شريف في رفع معنويات الجيش الباكستاني خلال المواجهات مع المسلحين في منطقة القبائل أواخر عهد «مشرف»، كما يعود إليه الفضل في تعزيز القدرات العملياتية للجنود واستيعابهم الأساليب القتالية للجيش الهندي. لذلك يتوقع أن تمكِّنه نظرته القائمة على التركيز على مواجهة الإرهاب الداخلي من التعامل مع التحديات المقبلة بفعالية أكبر من سلفه كياني. ويقال إن الجنرال شريف اختِير خلافاً لرغبة «كياني» الذي أوصى بتعيين الجنرال أرشد محمود قائداً أعلى للجيش والجنرال أسلم هارون رئيساً لهيئة الأركان المشتركة، إذ كان ترتيب الجنرال شريف الثالث من حيث الأقدمية في قيادة الجيش، لكن توصيةً بتعيينه وصلت لرئيس الوزراء من الجنرال المتقاعد والوزير الحالي عبدالقادر بالوتش، الذي كان مسؤولا عسكرياً في مكتب نواز شريف خلال ترؤسه الحكومة عام 1999. ويعزو البعض سبب اختيار الجنرال شريف إلى الفترة التي خدم خلالها كقائد للمنطقة العسكرية في لاهور، مقر إقامة عائلة نواز شريف، والتي مكنته من التواصل مع شهبار شريف، رئيس حكومة إقليم البنجاب وشقيق نواز. هذا في مقابل العلاقة القوية بين أرشد محمود وبرويز مشرف الذي انقلب على شريف عام 1999 ونفاه إلى الخارج، علاوة على خدمة محمود في الاستخبارات الباكستانية، مما يثير هواجس لدى رئيس الحكومة الذي سبق أن لُدغ من الجيش. وكان نواز شريف قد أعرب عن رغبته في الفصل بين الجانبين العسكري والسياسي في الحياة العامة الباكستانية، بهدف وضع حد لدور المؤسسة العسكرية في المجال السياسي. لكن من غير المتوقع أن يخفف الجيش قبضته في هذا التوقيت الحساس، كما أن قائد الجيش شخصية محورية في باكستان، حيث تولى العسكريون حكم البلاد خلال معظم الفترة المنقضية على استقلالها عن بريطانيا عام 1947. هذا علاوة على أن «الذي يحرك قائد الجيش هو الجيش ذاته»، كما قال محلل أمني باكستاني. وثمة نقطة خلافية ربما تُعرِّض العلاقة بين رئيس الحكومة وقائد الجيش لاختبار لا يريده أي منهما، ألا وهي دعوة نواز شريف لفتح مفاوضات سلام مع حركة «طالبان» الباكستانية. وإن كانت التحركات في هذا الصدد قد أجهضها مقتل زعيم الحركة، حكيم الله محسود، بواسطة طائرة أميركية بلا طيار مطلع الشهر الماضي، فإن وجود الجنرال شريف كقائد أعلى للجيش، وهو من أشد الجنرالات بأساً في مواجهة «طالبان»، قد يؤثر على مساعي رئيس الوزراء إلى الحوار مع الحركة لوقف هجماتها. وفي هذا الخصوص يتذكر المراقبون محاولات شريف لتحسين العلاقات مع الهند عام 1999، والتي نسفها الجيش بإرسال جنود متنكرين في صورة متشددين للسيطرة على مرتفعات كارجيل في الجزء الهندي من كشمير. وعندما حاول شريف إقالة قائد الجيش (برويز مشرف)، أطاحه في انقلاب عسكري واستولى على الحكم. بيد أنه لا أحد يريد تكرار التجارب السابقة، خاصة أن باكستان أجرت في مايو الماضي أول انتقال ديمقراطي ناجح وسلس في تاريخها، دون تدخل من الجيش الذي تنتظره أدوار أخرى مهمة للغاية. فالولايات المتحدة، وهي أكبر داعم للمؤسسة العسكرية الباكستانية، تريد من باكستان دوراً مساعداً في إشاعة الأمن والسلام في أفغانستان قبل انسحاب القوات الغربية من هناك مطلع العام المقبل. وهو دور تسعى المؤسسة العسكرية إلى التوفيق بينه وبين رؤيتها لمستقبل أفغانستان والتنافس عليها مع الهند وإيران... ما يتطلب الحفاظ على الحكومة المنتخبة، وتمكين القائد الجديد لسادس أكبر جيش في العالم (600 ألف رجل)، من إنفاذ رؤاه فيما يتعلق بمواجهة التهديدات الإرهابية ضد باكستان.