بُعيد عودته من رحلة طويلة إلى الخارج سارع الحاكم العسكري لباكستان بالإعلان عن جملة من التغييرات العسكرية في المناصب العليا. والآن فإن أعلى المواقع العسكرية أصبح يشغلها ضباط أقل رتبة بكثير من الجنرال مشرف نفسه. وبهذا المفهوم فإن هذه التغييرات من شأنها أن تمنح الجنرال مشرف ثقة أكبر في بسط سيطرته على القوات المسلحة.لقد ظلت القوات المسلحة الباكستانية تتمتع بشكل تقليدي بمستوى عالٍ من الانضباط، رغم العدد القليل من صغار الضباط الذين أدينوا في محاولات اغتيال بعض القيادات العسكرية والسياسية في الدولة.إلا أن القوات المسلحة ومنذ انضمامها للحرب ضد الإرهاب تدين بالولاء لرئيسها وللمؤسسة العسكرية.
وبموجب هذه التغييرات فإن جميع الجنرالات العاملين من ذوي الرتب الأعلى من اللواء أصبحوا يدينون بمواقعهم الجديدة للجنرال مشرف. والغريب أن أولئك الذين لديهم مهام سياسية مثل الجنرالات أكرم وحفيظ واحتشام قد أبعد معظمهم من دائرة الترقيات. وسواء كان هذا الأمر قد حدث سهواً أو عن عمدٍ فإنه لا يختلف عن ذلك النهج الذي ظلت تتبعه الديمقراطيات الجديدة أثناء الفترات الانتقالية. على أن أهم أثر لهذه التغييرات العسكرية في المناصب العليا سوف يسلط الضوء بالضرورة على مسألة انتقال باكستان إلى الحكم المدني. ولما كان الجنرال مشرف حالياً يمسك بزمام القيادة العليا للجيش ومنصب رئيس الدولة المتنفذ على حد سواء، وفي حال أن هذه التغييرات قد منحت الجنرال مشرف إحساساً أكبر بالثقة، فإنه من المرجح أن يعمل على تسهيل مسألة الانتقال إلى الحكم المدني عبر التخلص من زيه العسكري. وعلى العكس من ذلك فقد يشعر بهذا الإحساس من الثقة ويقرر الاحتفاظ بردائه العسكري ضارباً عرض الحائط بمشاعر المواطنين.
إن الولوج إلى الحكم المدني عبر التفريق بين موقعي الرئاسة وقيادة الجيش هو الأمر الذي تعهد به الجنرال مشرف قبل عام من الآن. وبموجب اتفاق أبرمه مع تجمع من الأحزاب الدينية وافق مشرف على تعيين مرشحهم كزعيم للمعارضة في البرلمان وسمح لحكومتهم بالاستمرار في تقلد السلطة في ولاية فرونتير كما وافق على دخول بعض الأئمة إلى البرلمان. وفي المقابل تعهدت الأحزاب الدينية الستة المتحالفة بدعم التغييرات الدستورية التي يطالب بها مشرف، إلا أن هذه التغييرات قد أفضت إلى رئيس مسلح بسلطة ونفوذ هائلين يتجاوزان السلطة التنفيذية والقضائية وسلطة القوات المسلحة، وأصبحت مسائل الأمن القومي مباشرة تحت سلطة الرئيس.
قبل أشهر قليلة من الآن أثار مشرف جدلاً محتدماً بشأن التزامه الدستوري بالتخلص من زيه العسكري، وبسبب الحرب على الإرهاب ادعى أنه يحتاج إلى الزي العسكري من أجل إنجاح مساعيه. ومؤخراً كانت هناك مجموعة من الاعتقالات في وسط تنظيم "القاعدة" وبشكل منتظم بهدف إرضاء العالم الخارجي. وما زالت التخمينات تتركز في أن الجنرال سوف يقوم بتسليم الهدية المنتظرة التي تتمثل في الملا عمر زعيم "طالبان" ورئيس تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. ومع ذلك فقد استمرت التساؤلات بشأن عما إذا كان الجنرال مشرف يحتاج إلى الاستمرار في ارتداء قبعة القائد الأعلى للجيش من أجل النجاح في القضاء على الإرهاب والاضطرابات في الدولة.
وقد تركزت هذه التساؤلات بشأن السلطات الهائلة التي يتمتع بها الرئيس والتي جعلت المؤسسة العسكرية مرتهنة وخاضعة للسلطة الرئاسية. ولكن كبار جنرالات الجيش المتقاعدين والمقربين من الجنرال مشرف والمؤسسة العسكرية توقعوا أن الجنرال مشرف سوف يلجأ إلى الفصل ما بين مكتبي الرئاسة وقيادة الجيش بحلول نهاية ديسمبر المقبل. وفي حال أن صدقت هذه التوقعات فإن ذلك يعني أن جولة جديدة من التغييرات في صفوف الجيش سوف يجري تنفيذها قبل ديسمبر. وهكذا فإن باكستان قد تجد نفسها في نهاية الأمر لديها طبقة من الضباط أكثر تميزاً من تلك التي ارتبطت بالجهاد الأفغاني الأول. وبينما اتسمت تلك الحرب الأفغانية بمقاومة نبيلة وباسلة ضد الاحتلال السوفييتي إلا أنها شهدت ظهور أكثر المجموعات العربية الأفغانية تطرفاً والتي مضت إلى تشكيل "طالبان" وتنظيم "القاعدة".
على أن هنالك بعض التغييرات التي طرأت على الساحة من الواضح أنها سوف تمضي قدماً وتتمخض عن العديد من التأثيرات طويلة المدى. وعلى سبيل المثال فقد لجأت المؤسسة العسكرية إلى استحداث فيلق استخباراتي في العام 1990، وهو يعمل على ضمان تسلق نفس المجموعة من الضباط لسلم الترقيات. وبينما تستمر نفس هذه المجموعة من الرجال في التقدم إلى الرتب العليا فقد ظلت تحمل معها نفس الميول الأيديولوجية والصداقات والبغضاء التي تكنها للآخرين وهي تعمل في شبكة متصلة بمجموعة من رجال السياسة والخدمة المدنية ورجال الأعمال والتنفيذيين في المصارف. ولكن هذا القالب فيما يبدو قد تغير الآن، فبعد محاولتي الاغتيال التي استهدفته في ديسمبر الماضي، سارع الجنرال مشرف إلى إعفاء رئيس الاستخبارات العسكرية وقام بتعيين سكرتيره