بالنظر للتقدم العظيم الذي تحقق في مجال مكافحة متلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) AIDS، بات في وسعنا الآن أن ننظر إلى الموضوع بطريقة لم نكن نحلم بها قبل سنوات قليلة. ولم تعد المسألة تتعلق بما إذا كنا قادرين بالفعل على خلق جيل جديد خال من الإيدز، بل أصبح السؤال المهم: كم سيتطلب الأمر من وقت حتى نرى هذا الجيل، وهل سيكون خلوّه من الإيدز مستداماً؟. لقد لعبت اللقاحات عبر التاريخ دوراً مهماً في مجال الحدّ من انتشار أمراض وبائية قاتلة أو القضاء عليها تماماً ومنها الجدري وشلل الأطفال والحصبة. ويبقى سؤالان مهمان يتعلقان بتخليق هذا الجيل الخالي من الإيدز: هل يمثل اللقاح المضاد لمتلازمة نقص المناعية المكتسبة HIV حاجة ملحّة من أجل بلوغ هذا الهدف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الدور الذي سيلعبه هذا اللقاح؟. لا شك أن مفهوم (الجيل الخالي من الإيدز) سوف يعني أنه ما من طفل سيولد من جديد وهو يحمل فيروس نقص المناعة المكتسبة، وبأن الأطفال الذين سيترعرعون سيكون احتمال إصابتهم بمرض الإيدز أقل بكثير مما هو الآن، وبأن أولئك الذين سيصابون بالفيروس يمكنهم تلقّي العلاج الذي سيدرأ عنهم خطر الإصابة بالإيدز ومن تمريره للآخرين عن طريق العدوى. وفيما يبدو وكأن الطريق المؤدي إلى (جيل خالٍ من الإيدز) طويل وشاقّ، إلا أن التطور الذي تحقق مؤخراً في مجال التصدي لفيروس نقص المناعة المكتسبة ومتلازمة الإيدز وعلاجهما يبدو مشجّعاً. وباتت المبادرات الهادفة لبلوغ هذا الهدف تقدم العلاج غير القابل للنكوص إلى الوراء بالنسبة لملايين السكان في أكثر بلدان العالم معاناة من هذا المرض القاتل، لعل من أهمها: (الخطة الطارئة للرئاسة في الولايات المتحدة لعلاج الإيدز) و(الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز) GFFA وبقية المبادرات التي تُعنى بمكافحة السل والملاريا. ومن أصل ما يُقدّر بنحو 34 مليون مصاب بمتلازمة نقص المناعة المكتسبة، لم يحظَ إلا 10 ملايين منهم بالأدوية الشافية. ويمكن للعلاج أن يخفّض من مفعول الفيروسات في أجساد المرضى، ويحسّن وضعهم الصحي ويقلل احتمالات نقل الفيروس للآخرين. وبلغت 13 دولة من التي تتلقى الدعم من مبادرة صندوق مبادرة الرئاسة الأميركية، ما يسمى (نقطة التعادل) عندما فاق عدد المرضى الذين يتلقون العلاج الشافي سنوياً أعداد المصابين الجدد بالمرض. وظهر أيضاً أن الخط البياني لداء نقص المناعية المكتسبة بدأ بالتقوّس نحو الأسفل. وتوحي النماذج المستندة إلى الرياضيات أن تعميم نشر أدوات العلاج والوقاية من متلازمة نقص المناعة المكتسبة، ومرض الإيدز على نطاق أوسع يمكن أن يؤدي إلى ظهور جيل بشري خالٍ من مرض الإيدز. ولكن، ومن دون استنباط لقاح فعّال مضاد لمتلازمة نقص المناعة المكتسبة، فإن بلوغ هذا الهدف سيستغرق وقتاً أطول، وسيكون أكثر صعوبة، ما سيؤدي لإصابة عدد أكبر من الناس بالوباء وفقد المزيد من الأرواح. وبالرغم من أن بالإمكان، بل ومن المرجّح أيضاً، أن نحقق هدف الجيل الخالي من الإيدز من دون الحاجة لذلك اللقاح، إلا أن اللقاح المضاد لفيروس نقص المناعة المكتسبة سيحقق لنا هذا الهدف بسرعة أكبر، ولعل الأهم من ذلك كله هو أنه سيساعد على استدامة هذا الإنجاز. ويعتمد بلوغنا لهذا الهدف على توسيع رقعة انتشار العلاج الشافي وتأمين أدوات الوقاية من متلازمة نقص المناعة المكتسبة ومرض الإيدز لكل الناس الذين يحتاجونها. ووفقاً لهذا الاعتبار، بات النجاح أو الفشل يعتمد إلى حدّ كبير على السلوك البشري ذاته. وحتى نتمكن من بلوغ هدف تخليق جيل مستدام خالٍ من الإيدز، ينبغي على أولئك الذين تعرّضوا للإصابة بالمرض، أو الذين يشعرون بأنهم تحت خطر التعرض للإصابة به أن يتقدموا بأنفسهم بكل إخلاص لتلقي العلاج المطلوب أو للاستفادة من استراتيجيات الوقاية من الإصابة، وأن يتناولوا الجرعات اليومية الموصوفة لهم من الأدوية بكل دقة وأمانة. وكثيراً ما أثبتت التجارب السريرية بأن مدى الالتزام بالحمية الوقائية هو فيصل النجاح أو الفشل في اتباع هذه الاستراتيجية. وتجدر الإشارة إلى أن الالتزام بأقل بقليل من الحمية الوقائية المثالية المطلوبة يؤدي بالضرورة إلى إضعاف مفعول الأدوات الوقائية التي لا تشمل اللقاح. وثبت بالدليل القاطع بأن فرصة الإصابة أو العدوى بفيروس نقص المناعة المكتسبة، تتناسب تناسباً طردياً مع درجة إهمال الحمية الوقائية اللازمة. ويبدو الأمر معاكساً لما أتينا على ذكره عندما نتحدث عن اللقاح المضاد لمتلازمة نقص المناعة المكتسبة. فحتى يتصف هذا اللقاح بالفعالية اللازمة، يمكن أن يحتاج المريض إلى تعاطي عدد قليل من الأدوية الإضافية المحفّزة لنظام المناعة، كما يمكن أن يحتاج إلى عقار واحد منها فحسب. وبعد ذلك، لا يكون لسلوك المريض أي تأثير يُذكر على فعالية العلاج. وهناك أكثر من ذلك، فعلى النقيض، مما هو الحال بالنسبة للقاح شلل الأطفال أو الحصبة أو بقية اللقاحات التي أثبت نجاعتها في إنقاذ حياة البشر، والتي يُعرف عنها أنها كافية بحد ذاتها لوقف انتشار المرض عن طريق العدوى، فإن إعطاء لقاح فيروس نقص المناعة المكتسبة يجب أن يترافق مع الالتزام ببقية شروط الوقاية من الإصابة بالمرض. ويمكن القول بمعنى آخر إن اللقاح يشكل بحدّ ذاته مستحضراً وقائياً واحداً، ولكنه ليس الوحيد. ونحن نتطلع لاستنباط لقاح أكثر قوة لمتلازمة نقص المناعة المكتسبة. ولكن، وحتى نضمن لهذا اللقاح أن يكون أكثر قوة ونفعاً، فإن من الضروري أن يبلغ من حيث قوة التأثير معدلاً يتراوح بين 50 و70 بالمئة. وعندما يتحقق ذلك فإن بالإمكان تدعيمه ببقية أدوات الوقاية المعروفة لنتوصل من ذلك إلى خلق استراتيجية ذات فعالية عالية في الوقاية من المرض. ولا زالت مراكز البحوث تقدم لنا الشروح المفصلة حول الطرق الواجب اتباعها من أجل استنباط لقاح فعّال لمتلازمة نقص المناعة المكتسبة بالرغم من أن هناك الكثير من التحديات العلمية التي تعترض بلوغ هذا الهدف. وعندما ننجح في ذلك، فإن اللقاح المستنبط الجديد سيمثل الأداة المناسبة ليس لمجرّد زيادة سرعة القضاء على متلازمة نقص المناعة المكتسبة وتخفيض تكاليف العلاج، بل وأيضاً من أجل تحقيق هدف بلوغ الجيل الخالي من الإيدز. إنه اللقاح الذي سيحقق لنا الهدف الأسمى المتمثل بخلق عالم يخلو تماماً من متلازمة نقص المناعة المكتسبة ومرض الإيدز. -------- أنتوني فوسي -------- مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض الوبائية في الولايات المتحدة