استيقظنا صبيحة 29 مايو الماضي في بريطانيا على خبر نقلته «بي بي سي» يفيد بأن البلاد تحتجز بطريقة غير قانونية ما بين 85 و90 من المتمردين الأفغان المشتبه فيهم بأحد مراكز الاعتقال، دون تمتيعهم بحق المحاكمة العادلة. هذا الخبر سيؤثر سلباً على صورة بريطانيا ومصداقيتها في الوقت الذي تتأهب فيه للانسحاب من أفغانستان مع متم السنة المقبلة. وإثر التطورات التي كشفتها وسائل الإعلام أعلنت مجموعة من المحامين المتطوعين تمثيلهم للمشتبه فيهم، والذين لم يسمح لهم حتى كتابة هذا المقال بالتواصل مع محامين. وقد ذكر المحامون أنهم سيطلبون من وزارة الدفاع، وهي الجهة المشرفة على مركز الاحتجاز، أن توجه تهماً رسمية إلى المشتبه فيهم أو أن تطلق سراحهم بموجب قانون المحاكمة العادلة، وذلك باعتبارهم ممثلين تطوعوا للدفاع عن المشتبه فيهم. وفي هذا السياق قال المحامي «فيل سينر» لصحيفة «تايمز» البريطانية: «إننا نتحدث هنا عن منشأة سرية استخدمت بطريقة غير قانونية لاحتجاز حوالي 85 أفغانياً، ودون علم البرلمان، بل إن المحاكم نفسها لم تعرف بوجود هذه المنشأة التي تُستخدم للاحتجاز خارج نطاق القانون». لكن وزارة الدفاع، وبعدما اشتدت متاعبها وتزايدت الانتقادات لها، ردت بأنها أطلعت البرلمان منذ سنوات على وجود المنشأة! غير أن المشكلة التي أزعجتني شخصياً هي تعامل وسائل الإعلام بنوع من التواطؤ مع الحدث، فبعدما استشعرت الفضيحة الداخلية والخارجية لمثل هذا التصرف غير القانوني، آثرت السكوت عن الموضوع رغم معرفتها به ولم تأت على ذكره في صفحاتها. والحقيقة أن منبع الغضب الذي أشعر به هو افتراق بريطانيا عن مبادئها التي تكرست منذ قرون، فالبلاد معتادة على مواجهة التمردات في تاريخها الطويل، سواء في شمال إيرلندا أو في بلدان أخرى، ونحن نعرف أن احتجاز الناس في أماكن للاعتقال دون محاكمتهم يتعارض مع القوانين الراسخة في هذه البلاد، كما نعرف جيداً أن انتهاك القانون فقط يفاقم التمرد ولا يساهم في القضاء عليه، ولنا في إيرلندا الشمالية خير مثال، حيث فشلت سياسة مشابهة في احتجاز المشتبه فيهم دون محاكمتهم، مما شكل وبالا على بريطانيا من الناحيتين الأخلاقية والسياسية. ولو تبين للرأي العام أن السلطة، ممثلة في الشرطة والجيش، تقوم بتصرفات خارج القانون، فلن تبقى لهذه المؤسسات الحيوية أية مصداقية، وقد يشجع هذا الأمر باقي المواطنين على خرق القانون، كما يدفع الإرهابيين إلى ضرب تلك المؤسسات واستهدافها. وفي دفاعه عن مركز الاعتقال، لم يجد وزير الدفاع فيل هاموند من تبرير سوى القول إن هؤلاء المحتجزين من العناصر الخطرة التي لو أطلق سراحها فستعود جرياً إلى ساحة المعركة لمقاتلة الجنود البريطانيين، مؤكداً أن المنشأة مؤقتة ولن تظل لفترة طويلة. وفي جميع الأحوال ما زال العديد من التفاصيل المحيطة بالمحتجزين غير واضحة في ظل شح المعلومات وعدم كفايتها، حيث تقول بعض الأخبار إن المشتبه فيهم ما زالوا يافعين، فيما يذهب آخرون إلى أنهم من العناصر الخطرة التي تحارب قوات التحالف الدولي في أفغانستان وكانت مسؤولة عن زرع العبوات الناسفة. وتفيد المعلومات الواردة التي كشفتها وسائل الإعلام أن المحتجزين أُدخلوا السجن الانفرادي لخمسة أيام قبل التحقيق معهم، إلى جانب احتمال تعرض بعضهم للتعذيب، الأمر الذي يستدعي سرعة الكشف الرسمي عما جرى في منشأة الاحتجاز والتحقيق الشفاف مع المشرفين عليها استجلاءً للحقيقية وتبديداً للإشاعات والأقاويل، وأيضاً لعرض المشتبه فيهم على المحكمة في إطار الضمانات القانونية التي يكفلها المشرع. ورغم سماح السلطات البريطانية لعناصر الصليب الأحمر بزيارة المحتجزين المشار إليهم، فإني لا أستبعد تعرضهم لمعاملة قاسية على أيدي الحراس والمحققين، لاسيما في ظل غياب وسائل الإعلام التي مُنعت من زيارتهم وتفقد أحوالهم، وفي ظل الفترة الزمنية الطويلة التي ظل فيها المعتقلون دون محاكمة، حيث تجاوزت 14 شهراً، وربما يكون السبب الذي عطل تسليم المحتجزين في المنشأة البريطانية إلى السلطات الأفغانية باعتبارها المخولة في إطار دولة مستقلة وذات سيادة للإشراف على المنشآت السجنية، إلا أن تعرض النزلاء للتعذيب في السجون المحلية أوقف عملية التسليم تلك، وهنا تكمن معضلة الحكومة البريطانية، فإبقاء المحتجزين دون محاكمة رهن الاعتقال لا ينسجم مع صحيح القانون ويعد عملا خارجاً عن الأصول المرعية في هذا المجال. لكن من جهة أخرى يعد تسليم سجناء إلى طرف ثالث لتعذيبهم إجراءً غير قانوني. ورغم ذلك، فقد قررت وزارة الدفاع تسليم هؤلاء إلى السلطات الأفغانية بعد التحقق أولا من أن سلامتهم مكفولة، حيث ستبدأ محاكمتهم العلنية وفق القانون الأفغاني على أن تكون المحاكمة خاضعة للمراقبة الدولية تفادياً للتجاوزات. واللافت أنه في الوقت الذي يسعى فيه أوباما لإغلاق معتقل جوانتنامو، رغم تحفظ بعض المشرعين الأميركيين والتخوف من نقل المعتقلين داخل أميركا، سيجد بعض المعلقين والمراقبين شبهاً بين المعتقل سيء الذكر مع المنشأة البريطانية في أفغانستان. وحتى بعد تسوية الموضوع ومثول المحتجزين أمام المحكمة طبقاً للقوانين، أخشى أن وزارة الدفاع البريطانية ستواجه أوقاتاً صعبة خلال السنة ونصف السنة المقبلة على خلفية الدعوى القضائية المرفوعة ضدها، مع ما يتمخض عن ذلك من تكاليف باهظة وإساءة للسمعة وضرب للمصداقية، وهي أمور كانت الوزارة في غنى عنها لو أحسنت التصرف منذ البداية وتجنبت انتهاك القانون.