لم يدخل رئيس الوزراء البريطاني السابق، جون ميجور، مجلس اللوردات بعد، ومع ذلك يدلي بتصريحات وخطابات تتسم بالكثير من العمق والحصافة، هذا بالإضافة إلى أنشطته الاقتصادية الأخرى، فهو يجوب العالم، ويلقي المحاضرات حول القضايا الراهنة التي تشغل بال الرأي العام المحلي والدولي. وفي نهاية عام 2011 كتب ميجور كلمات حول قضية تثير لغطاً كبيراً داخل بريطانيا وهي تلك المتعلقة بالمساعدات المقدمة إلى الدول الفقيرة والالتزامات البريطانية في هذا الخصوص، حيث قال: «المساعدات التي تقدمها بريطانيا هي بالأساس تصب في مصلحتها، فنحن إذا لم نستثمر في البلدان الفقيرة، مثل الصومال وأفغانستان، ونساعدها قبل أن تصل إلى مرحلة اليأس التام، فإنه سينتهي بنا الأمر بدفع تكلفة باهظة في شكل محاربة الإرهاب والجريمة والهجرة والتآكل المناخي الذي سيكون علينا التعامل معه، لذا أشعر بالفخر حين تقوم الحكومة الائتلافية الحالية بتعبئة الإمكانات لمساعدة الدول الفقيرة حول العالم». والحقيقة أن الانخراط في المساعدات الخارجية لم يكن على الدوام مبدأً راسخاً لدى حزب المحافظين، ولم يصبح كذلك إلا بعد وصول كاميرون إلى زعامة الحزب في عام 2005، حيث كان الاعتقاد السائد وقتها أن الحزب لا يمكنه الصعود إلى السلطة وتولي رئاسة الحكومة ما لم يُدخل بعض الإصلاحات الضرورية على هياكله ويجري بعض المراجعات المهمة على مواقفه، خاصة حيال المشاكل المرتبطة بالتغير المناخي لجهة الاعتراف بها والتوعية بمخاطرها، وتطوير الخدمات الصحية في بريطانيا، ثم المساهمة البريطانية في تقديم المساعدات للدول الفقيرة. وفي هذا السياق تعهد كاميرون على نحو واضح بتخصيص بريطانيا لنحو 0.7 من دخلها العام للمساعدات الخارجية في عام 2013، على أساس أن الزيادة في حجم المساعدات ستثبت للعالم أن بريطانيا بقدر ما تفكر بعقلها فهي أيضاً تملك قلباً كبيراً تتعاطف من خلاله مع فقراء العالم. وينصب الدعم البريطاني تاريخياً على دول جنوب الصحراء التي تعاني إشكالات إنمائية، بالإضافة إلى بلدان آسيوية فقيرة، بحيث تتقدم بريطانيا في تقديم المساعدات الخارجية على دول مثل فرنسا وألمانيا، بل وحتى الولايات المتحدة، بعدما بلغ حجم المساعدات لهذا العام 8.8 مليار جنيه أسترليني. لكن رغم الاندفاع الحكومي لتقديم المساعدات، لا يمكن القول إن الموضوع يحظى بنفس الحماس على الصعيد الداخلي، فقبل سنوات كنت عضواً في لجنة المساعدات الخارجية بمجلس العموم البريطاني، حيث كان الاعتقاد وقتها أن تقديم المساعدات فقط يأخذ من الفقراء في بريطانيا ليعطي للأغنياء في البلدان البائسة التي يستفيد فيها السياسيون الفاسدون، لينحصر الدفاع عن ضرورة الوقوف إلى جانب المجتمعات المستضعفة في أنحاء العالم على جهات بعينها، مثل الكنائس والأقليات الدينية، والمنظمات غير الحكومية التي تستحضر دائماً الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية في دفاعها عن استمرار بريطانيا في منح البلدان الفقيرة حصة من الدعم الإنساني والمالي. وقد اختلفت وجهات النظر في بريطانيا بشأن المساعدات الخارجية تبعاً للحساسيات السياسية والمشارب الأيديولوجية، إذ فيما نافح حزبا «العمال» و«الأحرار» عن تقديم المساعدات إلى البلدان المحتاجة واحترام الالتزامات الدولية في هذا الشأن، اعتبر المحافظون أنه من الأفضل إنفاق الأموال في الداخل بالنظر إلى أن من يدفع تكلفة المساعدات هو المواطن البسيط الذي تقتطع الضريبة جزءاً من دخله. ويتابع هؤلاء قائلين، إن المشاريع الداخلية تحتاج إلى تمويل، والمدارس والمستشفيات في أمس الحاجة للاستثمار والترميم ولا داعي لإنفاقها في الخارج. ولعل ما يعطي بعض الزخم للرأي المتحفظ على الاستمرار في السخاء نفسه تجاه الخارج، ما أعلنه وزير المالية، جورج أوزبورن، خلال الشهر الجاري من خفض كبير للنفقات لادخار ما يناهز 11 مليار جنيه استرليني حتى عام 2016. هذا التقليص في الإنفاق العام سيطال قطاعات حكومية حيوية، مثل وزارة الصحة والتعليم، مع ما سيترتب على ذلك من انعكاسات سلبية على الخدمات العمومية. ولن تسلم من هذا التخفيض وزارة الخارجية، ليبقى الاستثناء الوحيد من التقليص وزارة التنمية الدولية المحاطة بسياج من الحماية والدعم جعلها بمنأى عن الخفض. واللافت أن قطاعات مهمة، مثل الدفاع، تشهد حالياً تراجعاً في حصتها من الموازنة العامة. فبريطانيا تملك حاملة طائرات ستظل على مدى السنوات العشر المقبلة دون طائرات للتحليق عليها، هذا ناهيك عن خطط تقليص أعداد الشرطة في بريطانيا إلى 16 ألف رجل فقط. فهل يمكن الاستمرار في الإنفاق نفسه على الخارج فيما التقشف يسود في الداخل؟ الحقيقة أنه رغم تأييدي لتقديم الدعم للبلدان الفقيرة حول العالم، إلا أني لست من مناصريه في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، لذا أرى من الحصافة اليوم تخفيض موازنة وزارة التنمية الدولية لتتماشى مع أجواء التقشف العامة في البلاد. وإذا كان ميجور يحث على مواصلة المساعدات الخارجية، معلناً فخره بانتمائه إلى بلد يهتم ويتعاطف مع مآسي الآخرين، وهو شعور طيب ومحمود، إلا أني لا أريد إبداء هذا الرأي أمام الملأ، فتمويل مدارس في مالي والصومال، بينما المدارس البريطانية تعاني الأمرّين، ليس من الحكمة في شيء، بل سيكون له مفعول عكسي فيما يتعلق بالتأييد الشعبي للمساعدات الخارجية. هذا دون أن ننسى استحقاقات الدين الخارجي المتراكم على بريطانيا وضرورة الاستعداد الجيد لأدائه. ولعل تلك الاعتبارات هي ما دفع المملكة المتحدة، في خطوة ترمي إلى إعادة توجيه المساعدات الخارجية وليس إلغاؤها، إلى حذف 280 مليون جنيه استرليني من المساعدات الموجهة للهند و19 مليون أخرى كانت مخصصة لجنوب أفريقيا.