يركز السياسيون في واشنطن على كبح جماح العجز المالي المثير للقلق، وفي الوقت نفسه يميلون إلى تبني مواقف مغرقة في التشاؤم والسوداوية، فهم يعبرون عن مخاوفهم على الأجيال القادمة وسرقة مستقبلها، ويقلقون من إثقال كاهل العمال بالضرائب وحرمان الفقراء، ثم يتوجسون من قتل الانتعاش الاقتصادي الهش بعد الفشل في القيام بالاستثمارات الضرورية. والحقيقة أن هذا التشخيص للواقع والمخاوف التي تصاحبه، وإنْ كان ينطوي على بعض الوجاهة إلا أنه مفرط في التشاؤم ما يساهم في تكريس الحالة النفسية التي تتميز بالشلل وعدم القدرة على اجتراح الحلول السياسية المناسبة. والأكثر من ذلك أن المزاج المتشائم يعزز المبادئ الأساسية لدى كل من الحزبين ويدفعهما إلى التمترس وراءها دون إبداء استعداد للتوصل إلى أرضية مشتركة والتوافق على الحلول الممكنة. وفيما عدا النظرة المتشائمة هناك رؤية أكثر تفاؤلاً ودقة للواقع الأميركي. فالولايات المتحدة قد تكون على أعتاب مرحلة من التقدم غير المسبوق لما تتوافر عليه من فرص فريدة من نوعها تشمل: ثورة في مجال الطاقة، فنحن اليوم وبفضل التقنيات الجديدة أصبحنا أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي في العالم باحتياطيات تصل حسب الخبراء إلى مائة عام. كما أننا في الطريق لنصبح من بين الدول الأكثر إنتاجاً للنفط الخام في العالم، والأمر لا يقتصر على الطاقة، بل يتعداها أيضاً إلى الثورة الصناعية، فالولايات المتحدة متفوقة في مجال تصنيع الروبوتات وتقنية الأبعاد الثلاثية، وهي المجالات التي يمكنها مرة أخرى أن تحجز لأميركا المكانة الرائدة في الصناعة. ولا ننسى أيضاً ما يجري في مجال علوم الحياة، وبالتحديد في علم الجينات وخلايا المنشأ التي تتوافر فيها الولايات المتحدة على إمكانات بحثية هائلة تؤهلها لقيادة ثورة حقيقة وتحقيق اختراقات مهمة في ميادين الزراعة وصناعة الأدوية وتغيير أساليب الطب والعلاج. أما في مجال تكنولوجيا المعلومات، فإن الولايات المتحدة تقود حالياً على الصعيد العالمي ما يعرف بالحوسبة السحابية التي تتيح خيارات غير مسبوقة من شأنها تثوير مجال تكنولوجيا المعلومات. وفي ضوء هذه المزايا المهمة، بالإضافة إلى التجارة في إطار اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا مع شركاء مثل المكسيك وكندا، فقد نكون على أعتاب مرحلة جديدة تقود فيها أميركا الشمالية القرن الحالي، بحيث ستكون هذه المنطقة وليس غيرها، سواء الصين، أو أوروبا، أو اليابان، من سيُخرج العالم من الركود الاقتصادي ويدفع بعجلة النمو مرة أخرى إلى الأمام. لكننا لن نحقق هذا الإنجاز ما لم ينصلح حال الحكومة، فمع أن حجم الديون الكبير لا يتماشى مع متطلبات النمو على المدى البعيد، إلا أن تقليص النفقات التلقائي والعشوائي بالطريقة التي تم بها بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق حول الموازنة بين البيت الأبيض والكونجرس ويطال برامج الدفاع وأخرى محلية تشكل أساس النمو في المستقبل، هو أبعد ما يكون عن السياسة المناسبة للحد من العجز، فالأولوية في هذه المرحلة لتقليص- وبطريقة عقلانية- حصة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يقدر حالياً بحوالي 75 في المئة، لذا نحن في حاجة إلى إنزال مستوى الدين إلى 72 في المئة على مدى السنوات العشر المقبلة، والهدف هو تحقيق ذلك من دون خنق التعافي الاقتصادي الذي ما زال في بدايته. فكيف يصار إلى تحقيق هذا الأمر؟ نقترح لما فيه مصلحة هذه الأمة أن يوافق كل حزب على نسبة متساوية من التنازلات التي لا يريدها أي طرف في الظروف العادية، بحيث سيكون على «الجمهوريين» اقتراح 500 مليار دولار من المداخيل الإضافية على مدى العقد المقبل، فيما يتعين على «الديمقراطيين» ادخار 500 مليار دولار من خلال إصلاح برامج الاستحقاقات الاجتماعية خلال الفترة نفسها، بحيث سيتم إلغاء الخصومات الكبيرة والتلقائية، التي انطلقت مع بداية العام الجاري. وفي التفاصيل يمكن لـ«الديمقراطيين» اقتراح بعض التعديلات على صيغة الزيادات في التأمين الاجتماعي وفقاً لكلفة المعيشة وإصلاح بعض البرامج الأخرى، إذ من شأن هذا الإصلاح أن يدر بعض الدخل، وفي الوقت نفسه يغني عن التضحية بالبنية الأساسية للتأمين الاجتماعي، ومن جهتهم يمكن لـ«الجمهوريين» سد الثغرات الضريبية لتأمين مداخيل إضافية مع التنصيص على توجيه نصف المداخيل الجديدة لخفض نسبة الضريبة على الدخل. وباختصار سيكون على كل حزب تقديم شيء دون أن يضحي بمبادئه الأساسية، وفي هذه الأثناء سيكون على البلد أن يركز على بعض القضايا الأساسية والاستفادة من الفرص المتاحة مثل الجانب المتعلق بالطاقة، والدخول في شراكة مع المنظمات البيئية لاحتواء انشغالاتها. وفي مجال البنية التحتية يتعين إقامة شبكة إنترنت أسرع وأكثر فاعلية حتى يستفيد الأميركيون من الجيل الجديد للتكنولوجيا كما تمثلها الحوسبة السحابية، هذا بالإضافة إلى مد الطرق والسكك الحديدية، وتطوير المطارات وشبكات الكهرباء. وفيما يتعلق بالرأسمال البشري، يتعين إصلاح سياسة الهجرة وتشجيع الأميركيين على دراسة العلوم والتكنولوجيا وتطوير المدارس والتكوين من خلال التركيز على تطوير المهارات المهنية. وبالنسبة للقطاع المالي، فإنه يتعين إخضاعه للإصلاح وتسهيل القانون الضريبي للتشجيع على الادخار، وتبني الشفافية في التعامل مع كلفة الرعاية الصحية، فضلاً عن استعادة أكثر من تريليوني دولار من الاستثمارات الأميركية في الخارج، وبالطبع لن يتحقق كل ذلك مرة واحدة، لكن من خلال التحلي بالتفاؤل، والكف عن توجيه اللوم لبعضنا البعض حول الانحدار الأميركي المفترض يمكن الخروج من المأزق. --------- ديفيد بتراويس قائد القوات الأميركية السابق في العراق وأفغانستان ومدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق مايكل أوهالون باحث في مركز «بروكينجز» -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»