تميل الأحكام التي يصدرها التاريخ على حدث معين إلى الشك وعدم الاكتمال، بل في كثير من الأحيان تحمل في طياتها بعض المفارقات، وهذا يصح على نحو أوضح بالنسبة للحروب، حيث نتائج المعارك التي يُعتقد أنها نهائية وحاسمة غالباً ما تفرز ما يثبت غير ذلك. فبدلًا من الدفع في اتجاه السلام يكون النصر في العديد من الأحيان مجرد بداية للمزيد من الحروب، ذلك أنه ما أن تندلع الحرب حتى تنكأ جراحاً يصعب مداواتها لاحقاً لتصاب بالتعفن وتبقى الحرب مستمرة، وكما أوضح ذلك الخبير الاستراتيجي المعروف «سكوت فيتزجيرالد» في إحدى تصريحاته «المنتصر ينتمي إلى غنائم الحرب» بمعنى أنه ما يحدد نتيجة الحرب هو التغييرات التي تحدثها على المدى البعيد، وليس ما يتحقق من انتصارات في معارك سرعان ما يطويها النسيان، والدليل على ذلك ما تمخض عن الحرب العالمية الأولى التي تحل في السنة المقبلة ذكراها المئوية. فرغم أن ألمانيا خسرت الحرب، فإنه من غير المؤكد الجزم بأن فرنسا وبريطانيا استفادتا منها، ففيما عدا زرع بذور حرب أخرى أكثر دموية بعد عقدين من الزمن، أفضت الحرب التي دامت بين عامي 1914 و1918 إلى توفير الذريعة للسياسيين البريطانيين المصممين على التوسع لتقسيم الإمبراطورية العثمانية، وهو ما برهن التاريخ أنه كان حدثاً له ما بعده. فما كانت لندن تسعى إليه من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بطريقة عبثية هو تحقيق الأرباح وإخضاع الشعوب، لكن ما نالته في المقابل كان نقمة الشعوب ومقاومتها ليترتب على ذلك مجموعة من المشاكل المستعصية التي أورثتها، عندما حان الوقت، لواشنطن. والحقيقة أن كسب الحرب العالمية الأولى فقط، وسّع نطاق الإمبريالية البريطانية مسرعاً سقوطها لتحل مكانها على نحو ساذج الولايات المتحدة التي تدثرت برداء المسؤولية الإمبريالية، والتي يتم التخفيف من حدتها باستخدام عبارة «القيادة الأميركية». والحقيقة أن حالات عديدة أخرى من الانتصارات التي يمجدها التاريخ حملت في طياتها عناصر السقوط، ومن الأمثلة الحديثة حرب الأيام الستة في عام 1967 التي ورطت إسرائيل مع أقلية كبيرة من العرب لم تستطع إخضاعها ولا استيعابها، كما أن إخراج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان وفر الفرصة لصعود «طالبان»، فيما أدت عملية عاصفة الصحراء إلى إرسال الجنود الأميركيين إلى السعودية ليشعل ذلك فتيلا طويلا انتهى بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر. وإذا كان أحد يعتقد أنه انتصر في الحرب، ما عليه سوى انتظار العائد، فبانصرام الوقت تكتسي النتائج العسكرية قصيرة المدى أهمية أقل مقارنة بالتداعيات السياسية على المدى الطويل، فعندما انتهت الحرب الكورية قبل خمسين عاماً بمأزق حقيقي، نظر أغلب الأميركيين إلى خطة «هاري ترومان» في التعامل مع الحرب على أنها فشل ذريع، لكن بالنظر إلى نتائج الحرب اليوم كان ذلك الصراع الدموي أحد التحركات العسكرية الأميركية الأكثر نجاحاً في العقود الأخيرة، لما أفضت إليه الحرب اليوم من حالة الاستقرار في شمال شرق آسيا، والتي سمحت بظهور كوريا جنوبية تنعم بالاستقرار والازدهار وتحولها إلى ديمقراطية وحليف أميركي مهم في المنطقة، وهو أمر ليس سيئاً. وبالطبع لا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة والتعامل مع الحرب الكورية على أنها نجاح أميركي إلا إذا اعتبرنا بأن الهدف الأساسي لإدارة ترومان كان احتواء الشيوعية فقط، وليس الزحف على كوريا الشمالية، كما أرادت ذلك أميركا، بحيث تصبح الحرب الكورية من هذا المنظور الأخير، أي غزو كوريا الشمالية وتوحيد شبه الجزيرة الكورية، إخفاقاً كبيراً حتى بمعايير اليوم. والأمر نفسه ينطبق على حرب العراق، بحيث سيواجه مؤرخو تلك الحرب تحدياً جسيماً يتمثل في تقييم ما كان كبار أركان إدارة بوش يسعون إلى تحقيقه، فالتبريرات التي سيقت لغزو العراق سواء تعلق الأمر بأسلحة الدمار الشامل أو العلاقات المفترضة بين نظام صدام و«القاعدة»، أو نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط تبخرت فيما عدا الأخيرة. لكن وفيما كانت الحرب تطول أكثر من اللازم أفسحت التطلعات الأميركية بتغيير الشرق الأوسط المجال لهدف أكثر تواضعاً، ذلك أن بوش عندما تحرك لبناء الديمقراطية في الشرق الأوسط وضع نصب عينيه تشييد صرح منيف فقط ليكتفي في الأخيرة بكوخ حقير. لذا عندما حاول السيناتور جون ماكين إقصاء المرشح لمنصب وزير الدفاع، تشاك هاجل، قال «إن التاريخ أصدر حكمه على خطة الزيادة في عدد القوات الأميركية بالعراق»، محيلا إلى معارضة هاجل في عام 2007 لتلك الخطة، لكن تصريح «ماكين» يجافي الصواب من جهتين، أولا لأن الوقت ما زال مبكراً لتقييم النتائج، وثانياً لأن تصريحه ينطوي على نوع من التضليل، فالمتمردون المناوئون للحكومة العراقية ما زالوا يعيثون فساداً، وحتى بعد مغادرة القوات الأميركية للعراق بفضل الزيادة في عدد الجنود التي سهلت العملية لم ينته الصراع ولم تتضح بعد نتائجه. وليست القنابل والتفجيرات التي تواصل هزها للعاصمة بغداد سوى بعض من المعطيات التي تريد واشنطن تجاهلها، فماذا حققت خطة الزيادة في عديد القوات؟ الواقع أنها فقط منعت إدارة أميركا من الاعتراف بالهزيمة المنكرة، وذلك بعد تخلي إدارة بوش عن هدف تحقيق النصر، فكل ما أنجزه «بتراويس» الذي أشرف على تنفيذ الخطة هو توفير فرصة للجنود المحبطين للشعور بالتحسن ودعم معنوياتهم وإعطاء فرصة أيضاً لمساندي الحرب في واشنطن لإثبات جدارتهم، لكن انتشاء اللحظة الذي توفره الانتصارات المؤقتة سرعان ما يطويه الزمن ليبقى الواقع السياسي المستمر، ويمكن هناك استحضار لحظة مشابهة عندما أطلق الرئيس نيكسون في عام 1970 العنان للقوات الأميركية، كي تهاجم كمبوديا، فرغم الجدل الذي أحاط العملية، سمح الهجوم للقوات الأميركية المحبطة في فيتنام بملاحقة عدو منفلت في بلد مجاور، فيما أعطى ذلك فرصة لمؤيدي الحرب في أميركا بالشعور بالانتشاء. وإذا كانت هناك من مكاسب تكتيكية حققتها عملية ملاحقة الفيتناميين في كمبوديا، إلا أنها جاءت متأخرة كثيراً لتغيير مسار الحرب، والنتيجة أن الأهمية التي تقرن ببعض الأحداث مثل خطة الزيادة في عدد القوات بالعراق، التي احتفى بها ماكين لا تساهم سوى في صرف الانتباه عن التداعيات الأهم. وفي جميع الأحوال يشهد القرن الحادي والعشرون تطوراً تاريخياً غير مسبوق يتمثل في تأكيد شعوب الشرق الأوسط حقها في تقرير مصيرها بمنأى عن تدخلات القوى العالمية، لذا نجدها أقل تسامحاً مع التدخل في شؤونهم. ورغم محاولات الولايات المتحدة تأكيد حقها في التدخل بعد هجمات 11 سبتمبر وفرض مشيئتها على شعوب المنطقة، فإن محاولاتها تلك باءت بالفشل لتستمر إرادة الشعوب في التحرر والاستقلال. وصحيح أن أميركا غزت بغداد وأطاحت بالنظام، لكن ذلك الحدث تحول إلى لحظة زمنية مؤقتة طغت عليها النتائج اللاحقة، وهيمن عليها الواقع الراهن الذي يقول إن المنطقة كلها وليس العراق فقط بصدد الخروج من أيدي أميركا فقط، لتبقى المشكلة الوحيدة أنه لم يظهر بعد مغفل آخر تسلمه أميركا الفوضى التي تسببت فيها بالمنطقة. أندرو بيسيفتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»