في نظر القيادة الروسيّة، وتبعاً للعالم كما تراه وترسمه، يشكّل الوقوف في وجه النفوذ الغربيّ ثابتاً تقليديّاً من ثوابت موسكو واستراتيجيّتها. وهذا يرقى إلى معطى يعود إلى العهد القيصريّ حين كانت أوروبا الوسطى والشرقيّة، وصولاً إلى تركيا وامتدادات السلطنة العثمانيّة، مسرح الصراع الضاري على النفوذ. وقد عبر هذا النهج الراسخ محطّات عدّة تميّزت كلّ منها بمواصفات خاصّة بها: ففي العهد الستالينيّ، مثلاً، تجسّد ذلك في بناء "الكتلة الاشتراكيّة" أو "الشرقيّة" التي كان يُفترض بها أن تكون الحصن الحصين في مواجهة "الاختراق الغربيّ". ثمّ مع الحرب الباردة التي اندلعت أواخر العهد الستالينيّ واستمرّت أربعة عقود، طغت أشكال من المواجهة بعضها كان مباشراً (كوريا في أوائل الخمسينيات وكوبا في أوائل الستينيات) ومعظمُها كان بالواسطة من خلال قوى محليّة حليفة. والقاعدة هذه لم تختلّ تماماً إلاّ بانتهاء الحرب الباردة مطالع التسعينيات وقيام عهد بوريس يلتسين في روسيا. آنذاك ترافق الضعف الروسيّ الهائل مع انكشاف في الهيبة القياديّة والسياديّة لموسكو. وكان ما فاقم الإحساس الروسيّ الذي امتزج فيه الشعور بالعار مع الشعور بالمرارة، أنّ الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة حاولت أن تستثمر انتصارها حتى الثمالة، فلم تُبد أيّ سخاء أخلاقيّ في تعاملها مع الضعف الروسيّ المهين. هكذا جاءت البوتينيّة بوصفها تعبيراً عن هذين العار والمرارة وردّاً عليهما في آن معاً، وذلك من خلال استعادة المعادلة القديمة وفحواها مصارعة الغرب على النفوذ. وكان لأسعار النفط التي أخرجت روسيا من انهيارها الاقتصاديّ أن أشعلت هذا الطموح الذي عبّر عنه فلاديمير بوتين، بقدر ما سهّلت له الاقتصاص من الديمقراطيّة الروسيّة الناشئة وتقليم أظافرها. لكنْ إذا كانت الأسطر أعلاه قد وصفت منطق العلاقة في عمومه، فإنّ مسرح المواجهة اليوم يمتدّ من المناطق الإسلاميّة في "الروسيا" الكبرى وجوارها إلى نقطة اشتعاله في سوريّا. أمّا الهدف المباشر فهو التصدّي لما يصفه البعض بـ"التحالف الإسلاميّ (السنيّ)- الغربيّ" كحالة مكبَّرة عن الوضع الذي ساد إبّان الدعم الغربيّ لـ"المجاهدين" الأفغان ضدّ القوّات السوفييتيّة. وبدورهم، لم يكفّ الروس، بشكل مباشر أو مداور، عن وصف ثورات "الربيع العربيّ" كقاطرة لأنظمة إسلاميّة تمتدّ تأثيراتها شرقاً إلى حيث يخشى الروس. وقد جاءت المكاسب الانتخابيّة التي أحرزها "الإخوان المسلمون" في تونس ومصر تؤكّد لأصحاب الهواجس صحّة هواجسهم. بيد أنّ الهدف الأبعد والأعمق، وهو ما قد يفسّر تعلّق موسكو بنظام يتداعى كالنظام السوريّ، هو حماية نظام إيران وموقعها. فنظريّة المصالح الروسيّة مع سوريّا، وبغضّ النظر عن وجاهتها سابقاً، لم تعد تصلح للتفسير الآن في ظلّ الانهيار المريع للسلطة الأسديّة. أمّا إيران فتربطها اليوم علاقات لا تُحسد عليها بالدول الغربيّة ودول الخليج، كما أنّ توتراً ملجوماً ومسيطَراً عليه يربطها بتركيا. وعملاً بنظريّة "التحالف الإسلاميّ (السنّيّ)- الغربيّ"، تتحوّل طهران، كأمر واقع، إلى موقع للنفوذ الروسيّ في مواجهة الغرب. فكيف وأنّ تركيا، وهي جنوب روسيا وخصمها التقليديّ منذ قرنين، عضو في حلف شمال الأطلسيّ "الناتو" وشريك في ما تعتبره موسكو "مشاريع غربيّة" لمحاصرتها؟ تفسّر هذه العناصر مجتمعة أوجهاً من استماتة القيادة الروسيّة في الدفاع عن النظام السوريّ. فبحسب هذا السيناريو، يشكّل وقوع دمشق في قبضة الإسلاميّين داخليّاً، وانتقالها إلى "التحالف الإسلاميّ (السنّيّ)- الغربيّ"، مكسباً ضخماً للغرب وتشديداً نوعيّاً لمحاصرة إيران، بما في ذلك قطع الجسر الذي يصلها بـ"حزب الله" في لبنان ويؤسّس لها بالتالي مواقع أقدام في المشرق العربيّ. وتكتمل هذه اللوحة بالعودة إلى الثقافة الروسيّة السائدة والتقليديّة، وهي التي تشكّل رافداً إيديولوجيّاً قويّاً للنظريّة الاستراتيجيّة كما تتّبعها موسكو. فتلك الثقافة المستمدّة من التاريخ الروسيّ في قراءة إمبراطوريّة له، إنّما عَنت، في سياقها الأوروبيّ، التصدّي لأيّة حركة ديمقراطيّة وشعبيّة. ولئن استحقت روسيا للسبب هذا وصف كارل ماركس لها في القرن التاسع عشر بأنّها "سجن الشعوب"، فإنّها في القرن العشرين خنقت كلّ ربيع ديمقراطيّ وشعبيّ بالقوّة المحضة، على ما جرى في ألمانيا 1953 وهنغاريا 1956 وتشيكوسلوفاكيا السابقة 1968. غير أنّ الثقافة السياسيّة الروسيّة بخروجها إلى "العالم الثالث"، وإلى العالم العربيّ تحديداً، لم تخالف تلك القاعدة الأصليّة، بل حملتها معها وعمّمتها. فهي، منذ الخمسينيات، دعمت الانقلابات العسكريّة والأنظمة الاستبداديّة التي انبثقت منها. ذاك أنّ هذه الأنظمة تحقق، من وجهة نظر موسكو، إنجازين كبيرين: أوّلهما إخراج بلدانها من دائرة النفوذ الغربيّ ونقلها إلى دائرة النفوذ الروسيّ، وصولاً إلى تشريب جيوشها العقائد والنظم العسكريّة الروسيّة. والثاني، وهو ما وفره النزاع العربيّ- الإسرائيليّ المديد، إيجاد سوق لبيع السلاح الروسيّ وتصريفه في بلدان الشرق الأوسط. ولمّا كانت روسيا لا تملك سلعة جدّيّة صالحة للتصدير الخارجيّ ما خلا السلاح، فإنّ الأنظمة غير العسكريّة لا تبدو موضوعاً مغرياً لها، بل تبدو تهديداً ومصدر إضعاف. يمكن القول إذن، بلغة أخرى، إنّ أيّ سلام حقيقيّ في الشرق الأوسط يصطدم اصطداماً رأسيّاً بالمصالح الروسيّة، فكيف وأنّ الثورات التي تهبّ في مواجهة الاستبداد تشبه، في طلبها الحرّيّة، تلك الثورات الأوروبيّة التي تكرهها روسيا والتي طالما عملت على سحقها؟ واقع الحال أنّ ميل الثورات العربيّة إلى التركيز على الداخل الوطنيّ لبلدانها (الحرّيّات، الاقتصاد، التعليم، الصحّة...) لا يسحب البساط من تحت أقدام الأنظمة المعوّلة على "العدوّ الخارجيّ" و"الخطر المصيريّ" وحدها، بل هو يسحبه أيضاً من تحت أقدام الروس أنفسهم. وهذا ما يفسّر كيف أنّ فلاديمير بوتين لا يستطيع إلا أن يكون شريكاً كامل الشراكة مع بشّار الأسد.