الإسلام السياسي على قمة السلطة في مصر. هذا هو ما انتهت إليه الانتخابات الرئاسية التنافسية الأولى في تاريخها. أصبح الدكتور محمد مرسي القادم من جماعة "الإخوان المسلمين" رئيساً في لحظة انتقال بالغة الصعوبة، إما أن تسفر عن ميلاد جديد واعد ومبشر أو تقود إلى إدخال مصر "غرفة الإنعاش" لفترة يصعب توقع المدى الذي قد تستغرقه. لا يتوقف مستقبل مصر، في هذا السياق، على الرئيس الجديد وخلفيته وجماعته وحزبه وما يمثله فقط. فهو ليس مطلق اليدين. ولن يكون الرئيس في مصر حاكماً بأمره مرة أخرى. وتواجه هذا الرئيس بصفة خاصة مشاكل وصعوبات وتحديات هائلة. فالمصريون، وبخاصة فقراؤهم الكثيرون وبسطاؤهم ومن عانوا شظف العيش طويلاً في عشوائياتهم وأحيائهم البائسة ومناطقهم الشعبية، ينتظرون ما سيفعله لهم. وسيكون على الرئيس الجديد في مصر أن يجد صيغة لإدارة علاقة شديدة التعقيد مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي سيبقى في قلب السلطة لفترة أخرى من خلال استعادته صلاحيات البرلمان بعد حل مجلس الشعب وفقاً لحكم أصدرته المحكمة الدستورية العليا.كما أن عليه بناء علاقة جديدة مع الأحزاب والقوى السياسية سواء التي تقف معه أو ضده أو في منزلة بين المنزلتين أو تؤجل تحديد موقفها إلى وقت لاحق. فالكثير، إذن، من المحددات الأساسية بشأن صنع مستقبل مصر يرتبط بمعطيات موضوعية وبواقع شديد التعقيد والصعوبة. لكن هذا لا يعنى تقليل أهمية الاتجاه الذي سينتهجه الرئيس الجديد وخياره السياسي وطريقة إدارته للسلطة التنفيذية. وبمنأى عن تفاصيل كثيرة لا يتسع لها المجال، ربما يجوز القول إن مرسي يمتلك مفتاح تحديد مستقبل مصر وترجيح فرص نجاحه أو فشله، رغم أن المعطيات الموضوعية تبدو حاكمة للمسار السياسي في الأشهر المقبلة. ويكمن هذا المفتاح في نوع المشروع الذي سيتبناه، وهل يكون وطنياً عاماً أم إسلامياً. وإذا كانت تيارات الإسلام السياسي تختلف على كثير من الأمور العقدية والفقهية والاجتماعية والثقافية، فالفرق الأكثر جوهرية بينها في المرحلة الراهنة، بعد أن بدأت تعرف طريقها إلى السلطة، هو نوع المشروع الذي يحمله كل منها. فثمة اتجاهان رئيسيان في أوساط هذه التيارات، سواء "الإخوان المسلمين" وتنظيماتهم في بلاد عدة أو السلفيين بأطيافهم واتجاهاتهم المتفاوتة أو "الجهاديين" السابقين الذين نبذوا العنف أو غيرهم. ويذهب أحد هذين الاتجاهين إلى عدم إمكان إقامة المشروع الإسلامي التقليدي في بلد واحد. لذلك يرى هذا الاتجاه أن النجاح في السلطة يتطلب العمل لبناء مشروع وطني ذي طابع إسلامي، والتعاون مع التيارات الأخرى التي تقبل شراكة في هذا المشروع. ويختلف ذلك عن اتجاه آخر لا يجد مبرراً للوصول إلى السلطة إلا إقامة المشروع الإسلامي وفق فهمه الذي ينطلق من فكرة الخلافة، بغض النظر عن مدى ملاءمتها للواقع في مطلع القرن الحادي والعشرين وبمنأى عن تقدير أية صعوبات أو معوقات قد تجعل مثل هذا المشروع بعيد المنال. ورغم أن التجارب غير العربية، وخصوصاً التجربة التركية، أثبتت أن المشروع الوطني هو الأكثر قابلية للنجاح، لا تزال التيارات الإسلامية في عالمنا العربي تراوح بين المشروعين. وليست المقارنة بين أداء حزب "الرفاه" و"حزب العدالة والتنمية"، وفشل أربكان في مقابل نجاح أردوغان، إلا تعبيراً عن الفرق بين مشروعين أحدهما إسلامي والثاني وطني ذي طابع إسلامي معتدل في تركيا. فقد فشل أربكان وحزبه عندما جعل قضية نمط الحياة الشخصية محورية في مشروعه الذي اعتبره إسلامياً، فبدأ عهده بمعركة حول مسألة الحجاب وإدخال سيدة محجبة إلى البرلمان، بينما نجح أردوغان وحزبه عندما وضع قضايا تنمية الاقتصاد وإنعاش المجتمع وتأكيد الحرية والنهوض بالتعليم والصحة في صدارة مشروعه. لم ينتظر تلاميذ أربكان في تركيا طويلاً، بل استوعبوا الدرس سريعاً رغم أنهم جاءوا من الخلفية نفسها، وهي أفكار "الإخوان المسلمين" وتوجهاتهم، فأسسوا "حزب العدالة والتنمية" الذي يحمل مشروعاً وطنياً له خلفية إسلامية وسطية معتدلة. لكن الوضع في مصر لا يحتمل تكرار مثل هذه التجربة بشكل أو بآخر، لأنه أكثر تعقيداً على نحو لا يتيح لجماعة "الإخوان" فرصتين. فقد جاءتها الفرصة أخيراً بعد أكثر من ثمانية عقود أمضت معظمها تحت الأرض مطاردة وملاحقة، وأصبح على الرئيس الذي نشأ فيها أن يثبت ما إذا كان لدى التيار الذي تعبر عنه مشروع وطني يحل مشاكل متراكمة ويواجه تحديات هائلة من عدمه. وهذا هو نفس الاختيار الذي وجدت حركة "النهضة" التونسية نفسها فيه قبل أكثر من ثمانية أشهر، عندما حصلت على أكثرية مقاعد المجلس التأسيسي. فقد اختارت طريق المشروع الوطني وبناء شراكة وتقاسم السلطة والعمل المشترك لحمل تركة ثقيلة. ولا يزال رئيس الحكومة "النهضوي" محاصراً بتلال من المشاكل، رغم أنه يعمل مع شركاء في إطار مشروع وطني وفي وضع أقل صعوبة مقارنة بنظيره المصري، فما بالنا لو أنه اختار مشروعاً إسلامياً تنفرد به حركة "النهضة" أو تشترك فيه القوى السلفية المتشددة التي تقف في المعارضة الآن. لقد خلق أداء حركة "النهضة" أجواء تتيح العمل لمواجهة مشاكل هائلة تتطلب معالجتها فترة طويلة لأنها اختارت طريق المشروع الوطني ذي الصبغة الإسلامية. ويستطيع الرئيس القادم من جماعة "الإخوان" في مصر أن يخلق أجواء مماثلة إذا اتبع المنهج نفسه وتبنى مشروعاً وطنياً عاماً واعتمد على شركاء من تيارات أخرى وأفسح مجالاً لكل من يستطيع المساعدة واتخذ إجراءات عملية تطمئن الفئات القلقة على نحو يتجاوز الخطاب السياسي الإيجابي الذي لجأ إليه منذ يوم إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية. فعندما يفتقد المجتمع الحد الأدنى من الثقة، وحين لا يثق أحد في غيره، لا يفيد الخطاب كثيراً مهما بدا طيباً ولا تحقق الوعود أثراً كبيراً في الواقع ما لم تقترن بإجراءات تعبر عن طبيعة المشروع الذي يحمله. ورغم أن تجربة تركيا ملهمة في هذا المجال، وخبرة تونس واضحة، لا يزال خيار الرئيس المصري الجديد غامضاً، بينما الجميع في انتظار سياساته التي سيتبناها وقراراته وإجراءاته التي يتخذها، لمعرفة نوع المشروع الذي يحمله. وربما لا يتيسر معرفة ذلك في المدى القصير لأن التحديات التي تواجه مرسي هائلة وتفرض بناء شراكة وطنية مع أطراف أخري سعياً لعبور الفترة الأكثر صعوبة وحرجاً. لذلك قد تمر أشهر قبل أن يظهر نوع المشروع الذي يحمله رئيس مصر الجديد، ويتبين ما إذا كان خطابه الذي حفل برسائل إيجابية خلال الأسبوعين الأخيرين استراتيجياً أم تكتيكياً.