تقع الولايات المتحدة حالياً وسط دائرة خبيثة من اللامساواة والركود، وتكمن مشكلتها في أن اللامساواة تؤدي للركود والركود يفاقم اللامساواة. ومن سوء الحظ أن أجندة التقشف التي يدعو إليها بعض المحافظين سوف تجعل الأمور أسوأ في الحالتين. وقد أبرزت بيانات الاحتياطي الفيدرالي التي نشرت هذا الشهر مشكلة اللامساواة المتفاقمة عندما أظهرت الأثر المدمر للركود على دخول الأميركيين الذين يقبعون في قاع المجتمع ووسطه، حيث انخفض متوسط الادخار بنسبة 40 في المئة خلال ثلاث سنوات فقط، كما انمحى حاصل عقدين من مراكمة الثروة لمعظم الأميركيين. ورغم أن هذه البيانات أكدت ما كان معروفاً من قبل، فإن الأرقام ذاتها ما زالت تسبب صدمة. كنا نعرف أن أسعار العقارات، وهي المصدر الأول لادخار الأميركيين، هبطت هبوطاً حاداً مما أدى لضياع بلايين الدولارات، بسبب أزمة الرهن العقاري، بيد أن ما يجب أن نعرفه أيضاً هو أنه إذا لم نفهم الصلة بين اللامساواة والأداء الاقتصادي، فإننا سنخاطر باتباع سياسات قد تزيد الاثنين سوءاً. لقد "تفوقت" أميركا في اللامساواة منذ بداية الألفية على الأقل، ما جعلها من أكثر الدول من حيث انعدام المساواة في العالم المتقدم بأسره. وتظهر لنا تلك البيانات كيف أن مزيجاً من السياسات النقدية والمالية والتنظيمية قد ساهم في تلك النتائج. وقد يقول قائل هنا إن قوى السوق تلعب دوراً، لكن الرد هو أن تلك القوى تلعب مثل هذا الدور في الدول الأخرى كذلك، وهو ما يؤكد أن العملية السياسية تلعب دوراً كبيراً، وهي السبب الأساسي وراء الفارق في النتائج. والركود الكبير جعل هذه اللامساواة أسوأ، وهو ما قد يؤدي لإطالة أمد التراجع الاقتصادي. فهؤلاء الذين في قمة المجتمع ينفقون جزءاً من مداخيلهم أقل مما ينفقه هؤلاء الذين في قاع المجتمع ووسطه، والذين يتعين عليهم إنفاق كل مداخيلهم اليوم حتى يستطيعوا تدبير أمور معاشهم في الحد الأدنى. واستقطاعات الضرائب الموجهة لشريحة الأغنياء في عهد بوش، أدت إلى إدخال إجراء غير فعال لدرجة كبيرة، فيما يتعلق بالقدرة على سد فجوة الإنفاق. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أدت تلك السياسة الى وضع عبء التوظيف الكامل على الاحتياطي الفيدرالي الذي ملأ الفراغ من خلال خلق فقاعة عن طريق القواعد المتراخية والسياسة المالية السائبة. وهذه الفقاعة أغرت أميركيي أسفل السلم الاجتماعي، بالإنفاق على نحو يفوق قدرتهم وإمكانياتهم بكثير. ونجحت تلك السياسة في تحقيق المتوخى منها، لكنها كانت مسكنات وقتية وغير قابلة للاستدامة. لقد فشل الاحتياطي الفيدرالي بشكل مستمر في فهم الصلة بين اللامساواة وأداء الاقتصاد الكبير. فقبل الأزمة لم يهتم كثيراً بموضوع اللامساواة، وركّز على التضخم أكثر مما ركّز على التشغيل وإيجاد الوظائف للعاطلين عن العمل، كما أن إيمان مسؤولي البنك القوي بالاقتصاد غير المقيد منعهم من عمل أي شيء تجاه إساءة استخدام البنوك، وجعلهم يرفضون التدخل لتنظيم السوق العقاري إلى أن انفجرت الفقاعة وبدأت الأزمة الطاحنة. وبعد الأزمة عمل مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي على تخفيض قيمة الفوائد على أمل أن يؤدي ذلك الى ارتفاع أسعار الأسهم والسندات، وهو ما سيدفع حائزيها لإنفاق المزيد مما يؤدي لزيادة الطلب وإنعاش الأسواق. لكن ما حدث هو أن تخفيض سعر الفائدة دفع الشركات المستثمرة في السوق إلى استخدام تقنيات رأس المال الكثيف، التي تعتمد على إحلال أجهزة وآلات مكان العاملين... ما يعني في الواقع أن الاحتياطي الفيدرالي يساهم في تعاف غير قائم على زيادة معدلات التشغيل. ليس هذا فحسب بل أن الوضع قد يزداد سوءاً. فالتقشف الذي يدعو إليه الجمهوريون سوف يؤدي لزيادة معدلات البطالة، وهو ما سيؤدي بدوره لانخفاض معدلات الأجور بسبب التنافس على الوظائف المحدودة. وانخفاض معدل النمو، سوف يؤدي إلى خفض الضرائب، ما سيقلص الخدمات المهمة لمعظم الأميركيين. الخلاصة: إذا أردنا تحقيق التعافي، فلا خيار لنا سوى الاعتماد على السياسة المالية. فالإنفاق الرشيد يمكن أن يقود إلى رفع مستوى التشغيل، وزيادة معدلات النمو، وزيادة درجة المساواة. وسوف تؤدي زيادة الاستثمارات في التعليم، وخصوصاً الموجه للأميركيين في أدنى السلم الاجتماعي ووسطه، إلى تعزيز الفرص ورفع نسبة النمو. وهذا النمو المرتفع سوف يقود بدوره الى زيادة العوائد المتحصلة من الضرائب، وتحسين وضعنا المالي، كما أن العديد من أنواع الاستثمارات سوف تدفع لنفسها، أي سوف توفر الأموال المطلوبة لدفع أجور ومرتبات الموظفين والعاملين من الأرباح التي تحققها. وعلى النقيض من ذلك، إذا ما سرنا على طريق التقشف، فإننا نغامر بالدخول في حالة من الركود المزدوج (ركود يعقبه تعاف ثم ركود مرة أخرى)، خصوصاً إذا ما تفاقمت الأزمة الأوروبية. والأخطر من ذلك أن بلادنا سوف تصبح أكثر انقساماً، وسوف ندفع ثمناً اقتصادياً باهظاً لظاهرة تفاقم اللامساواة وتقلص الفرص. وتأثير ذلك سوف يكون أشد عنفاً على ديمقراطيتنا، وعلى هويتنا كأمة فرص وقوانين عادلة، وعلى مجتمعنا في نهاية المطاف. جوزيف ستيجليتز حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد (2001)، ترَأّس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس كلينتون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوزسيرفس"