عارض هنري كسينجر في مقاله المنشور بصفحة الرأي بهذه الصحيفة في الرابع من يونيو الحالي التدخل في سوريا، على أساس أن هذا التدخل سوف يعرض أسس النظام العالمي للخطر. وقد استند كسينجر في تحليله على حجة واهية تستخدمها الحكومتان الروسية والصينية مفادها أن الهدف من التدخل الخارجي في سوريا "هو السعي لإحداث تغيير في النظام هناك". لكن الحقيقة هي أن الهدف من التدخل في سوريا هو إيقاف عمليات القتل، وإجبار "الأسد" وحكومته على الوفاء بمطالب الشعب السوري، من خلال القيام بالإصلاحات المطلوبة وليس من خلال المدافع. وإذا ما توقف القتل، فإنه لن يكون واضحاً ما هو الشكل الذي ستتخذه العملية السياسية، ولا عدد الملايين الذين سيخرجون للشوارع والذين ستدعمهم طوائفهم وفئاتهم المختلفة. ومن المؤكد تقريباً أن غالبية السوريين سوف يطالبون بتخلي الأسد عن منصبه، غير أن ذلك سيكون من خلال صناديق الاقتراع أو عبر تسوية سياسية متفاوض عليها، تترك الدولة السورية بمكوناتها الأساسية، المتمثلة في البيروقراطية والجيش والقضاء، سليمة ومتماسكة. ويشار في هذا السياق إلى أن الفوضى والعنف المريع اللذين اندلعا في العراق بعد الغزو الأميركي، كان سببهما الرئيسي إصرار الإدارة الأميركية على تدمير تلك المؤسسات الحيوية وليس صدام حسين فقط. ومن باب التحذير والعظة، لا يشير كسينجر، وغيره ممن لا يحبذون التدخل في سوريا، لمثالي العراق وليبيا فقط، وإنما نراه يضم ليبيا مع اليمن والصومال ومالي في حزمه واحدة، ويشير إليها على أنها "فضاء خال" على الخريطة يؤشر إلى "الفوضى والخروج عن القانون". لكن "جوان كول"، المحللة السياسية التي زارت ليبيا مؤخراً، والتي توقعت أن ترى درجة معينة من الفوضى، تقول إنه لم يكن هناك في بنغازي أو مصراتة أو حتى طرابلس "رجال ميليشيات يمكن رؤيتهم في الشوارع، بل على العكس تماماً، حيث كانت معظم الأشياء تعمل بصورة طبيعية كما كان هناك رجال مرور عند تقاطعات الشوارع والميادين، ومهرجانات أطفال تعمل حتى ساعة متأخرة من المساء، وأسر تخرج للتنزه وللتسوق، ومحال مجوهرات مفتوحة حتى الثامنة مساءً، وعرب وأفارقة يعملون جنباً لجنب"، دونما مشكلات. وتوصلت "الإيكونوميست" لنفس الخلاصة مطلع هذا العام، حيث نقلت توقعات اقتصادية متفائلة في ليبيا. لقد كان كسينجر على حق في قوله في نهاية مقاله إن عمليات "الناتو" في ليبيا بدت كمجهود للإطاحة بالقذافي من السلطة، غير أن ذلك لم يكن يرجع إلى أن طائرات "الناتو" دمرت معدات ومراكز القيادة والسيطرة في طرابلس التي كان القذافي وجنرالاته يصدرون منها الأوامر بتنفيذ المذابح ضد الشعب الليبي، وإنما لأن تلك الطائرات التابعة للحلف، لم تسع أبداً لحماية المدنيين الذين يساندون القذافي ضد قوات المعارضة. لكن الاستجابة لهذا الهاجس لا تكون عن طريق معارضة التدخل في سوريا، وإنما بدعم قرار مجلس الأمن الدولي المتضمن لحدود واضحة بشأن الاستخدام المحدود للقوة. ومثل هذا القرار الذي سيتعين أن يلي تقديم طلب من قبل الجامعة العربية، وينبغي أن يؤكد العزم على إقامة مناطق عازلة "يحظر فيها على السلطات السورية ممارسة القتل، وذلك بكافة الوسائل الممكنة، ما عدا وضع قوات أجنبية على الأرض. وهذه الوسائل تشمل التزويد بمعدات وأجهزة الاتصالات والاستخبارات، والأسلحة المضادة للدبابات والمضادة للهاونات، والدعم الجوي -وهذا هو الأهم- ضد دبابات وقوات الجيش النظامي السوري التي تسعى لدخول واجتياح تلك المناطق، علماً بأن تقديم ذلك الدعم سيتطلب أيضاً شل الدفاعات السورية. وادعى كسينجر أن روسيا والصين تدعمان الحفاظ على مقومات النظام الدولي التي لا ينبغي للولايات المتحدة الاستهانة بها وتنحيتها جانباً، وأهمها على الإطلاق مبدأ السيادة الذي ينص على أن الحكومة صاحبة الشأن لها الحق في حكم شعبها والسيادة على أراضيها من دون تدخل من جانب أي دولة أخرى، على أن يقابل ذلك التزام من جانب هذه الدولة ذاتها "صاحبة الشأن" بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. ويؤمن أوباما بمبدأ السيادة، مع التركيز في المقام الأول على أنه يعني في ذات الوقت مسؤولية كل دولة عن حماية مواطنيها، كما يؤمن بأن الدفاع عن هذا المبدأ سوف ينتج عنه عالم أكثر استقراراً ورخاءً واتساقاً مع القيم العالمية. ومثل هذا العالم سيكون أفضل للأميركيين ولمليارات البشر غيرهم في أركان المعمورة الأربعة. لكن تطبيق هذا المبدأ يتطلب أن يتم إظهاره، وبشكل سريع وحازم، أنه حينما تتجاوز دولة ما حدود الإبادة الجماعية، أو تمارس جرائم ضد الإنسانية، أو تقترف تطهيراً عرقياً أو جرائم حرب خطيرة وممنهجة ضد شعبها، فإن العالم لن يقف مكتوف الأيدي، بل سيتصرف حيال تلك الدولة بالقوة، إذا ما لزم الأمر، وبموافقة المنظمة الإقليمية المعنية، وأغلبية أعضاء مجلس الأمن الدولي. وعندها فقط سوف يبدأ الطغاة في التفكير مرتين قبل الإقدام على أي جريمة بحق شعوبهم. آن -ماري سلوتر كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"