بعض الأماكن تسكننا كالوجوه الحبيبة، كملامح حبيب رحل في ريعان شبابه، رافضاً أن يكبر في قلوبنا وذاكرتنا، يطل علينا بوجهه حميمي القسمات مع كل ذكرى ليقول: مازلت هنا حياً بكم ولكم، لازلت شاباً يافعاً حتى وإنْ مرت كل هذه السنين، وكبرتم أنتم وأنا في ذات العمر أرتع في رياض الشباب. هذه هي ذاكرة المكان، ومكان الذاكرة، إنها تفاصيل صغيرة تحتل مساحات أكبر في قلوبنا وتزرع ثوانيها بكل حرص بين ثنايا الروح، لا تشيخ ولا تكبر وتبقينا بها صغاراً نلهو بين أروقتها، ونسمع صدى ضحكاتنا الطفولية يتردد ليعانق أسماعنا المتشوقة دوماً لهكذا براءة سرقتها منا السنين المتعاقبة بلا هوادة ولا رحمة. جعلتنا نلهث خلفها غير عابئين بما نسينا وأهملنا خلفنا، حتى وصل بنا الحال للتخلص من بعض هذه الأماكن ومحو ملامح وجهها المحبب لنا في ذاك الزمان، لأنها فقط لم تعد تصلح لهذا الزمان الجديد بكل أبهته وأبراجه وواجهاته اللامعة. مهم جداً أن نسعى بكل جد ونشاط لمواكبة صورة المدينة الحديثة، وأناقتها المستوردة والمطعمة أحياناً بروح موروثنا الهندسي أو المعماري، ولكن الأهم أن يبقى لنا من الماضي شاهد عيان على من كانوا هنا، بنوا، وشيدوا، وقبل كل ذلك ما شيد من الطين أو من الشجرة المباركة عمتنا النخلة أو من ( عطايا الله ) الإبل، لأن الماضي لا يموت إلا إذا قُتل بكف النسيان أو التناسي. الإبقاء على بعض المنازل القديمة أو حتى نماذج منها وصيانتها أمر في غاية الأهمية ليس للأجيال القادمة فقط، بل أيضاً لنا نحن، كي لا نجد أرواحنا مجتثة أو منفصلة عن واقعها بلا ذاكرة حية من ماضيها وجدرانها الدافئة التي احتضنت سنين عمرها الأولى، بلا رائحة مكان جدها وجدتها، وشباب والديها، عبق أحاديثهم و(سوالفهم) وشذى قهوتهم التي أخذوا يعدونها فجراً بعد العودة من الصلاة فتنتشر مخبرة كل (الفريج) أن الصباح تنفس. نعم لابد أن لا ننساهم كي نكون نحن وأبناؤنا بهم بخير، الأبناء الذين لا يتخيلون كيف كانت، وبأي طريقة شيدت تلك المنازل ولا القلاع والحصون، ولم يتعرفوا بشكل عملي على موادها الأساسية، أو يلمسون كم كان الأمر شاقاً وسط ذاك المناخ الخالي من كل أدوات ووسائل التهوية والتبريد. لماذا لا يتضمن المنهاج الدراسي من خلال حصص النشاط في مدارسنا مادة يدرب من خلالها الطلاب على الكيفية التي كان الأجداد يستخدمونها لبناء الجدران المعطرة بعرقهم الطاهر؟ لماذا لا يكون لطلاب كليات التقنية فعالية في مناسبة ما مثل اليوم الوطني تحت عناوين معينة تهدف إلى معرفة كيفية البناء في السابق رافعين شعار (لنبني كما كان يبني الأجداد)، تقوم على التعاون بين فرق عمل يتم تشكيلها من فروع الكلية على مستوى الدولة، وليكن البدء كمثال في بناء نموذج مماثل لقلعة أو حصن وفي مكان رسمي لتبقى فيه شاهداً على نشاط شباب الكلية وكبادرة راقية في إهداء بناء كهذا لمؤسسات معنية بالسياحة والتراث.. وتذكيراً بالمدن العتيقة. لا تتركوها للنسيان... إنها ذاكرتنا..! Summary