بعد طول انقطاع في التواصل فيما بيننا، ربما امتد إلى فترات طويلة من الزمن، ولأسباب قد ترجع لمشاغل الحياة، أو ربما لأن كلا منا، قد أخذ طريقاً مختلفة عن الآخر، فهو ذو طموح بلا حدود، وكان يعتقد أن ركوب القطار السريع للمحطات قد يؤدي إلى بر الأمان، أو في أحسن الحالات إلى أجواء كتاب "الأمير"، والابتعاد عن كتابات "جان جاك روسو"، وفي أسوأ الحالات الابتعاد عن أشعار المتنبي. إلا أن القدر دائماً يقف بالمرصاد لمن يخرج عن نهجه أو عن الجادة التي تأسس من خلالها.
مسْك العصا من الوسط كان هو المنقذ له دائماً، فهو يطرح الأسئلة على الآخرين، وهو يعرف كل الإجابات، إلا أن اعتقاده بأنه الفطحل في زمانه، وإيمانه بأن الآخرين سذج، زاد من عدد من أدركوا أن هذا الشخص هو نموذج للمثقف المنهار أمام عدم مصداقيته، سواء في مجال عمله، أو مجال المجتمع المدني الذي يدعي أنه يدافع عنه. أصبح كورقة الجوكر التي يستخدمها الجميع، سواء لأغراض نبيلة أو غيرها، إلا أن اللعبة انتهت كما أكد أحد أقطاب النظام العراقي على المستوى العالمي.
إلا أن ذلك المدعي ما يزال يعتقد أنها لم تصل إلى النهاية، وهذه كارثة وربما أزمة أو هزيمة لإنسان كان بوسعه أن يحافظ على كرامته، إلا أن تضخم الذات أدى إلى بداية نهايته. إنه نفس المشهد البالون الذي يمتلئ بالهواء، يكبر.. ويكبر، وكلما كبر أكثر اقتربت لحظة نهايته.
أتذكر هذا المشهد وفي البال شخص آخر دخل في نفس الاتجاه إلا أنه حافظ على شعرة معاوية، فهو لم يهادن الخط والاتجاه الظلامي أو بعبارة أخرى اتجاه "الإسلام السياسي" في مرحلة النشوة أو تلك الفترة التي تم فيها التحالف بين القوى السياسية المهيمنة وبين تلك القوة، بل ظل يصارعها ويناطحها كما كان حال أستاذه ذي الاتجاه الذي يرى أن الخليج ليس نفطاً بل إنساناً مبدعاً.
هذا الإنسان بدأت قوى الإسلام السياسي تهاجمه وبكل الوسائل المتاحة لأنه بكل بساطة إنسان ضد التحجر الفكري ومع الليبرالية بمفهومها الإنساني وليس الانتهازي.
حينما تحدث معي ذلك الإنسان - الذي أكن له التقدير- عن هجوم التيار الظلامي في بلاده، تذكر أن نفس التيار الذي قاد حملة ضد كل من يقف ضد مشروع الدولة الإخوانية في الخليج في القرن الماضي، هم الآن جميعاً إصلاحيون وحتى غربيون أكثر من سكان الغرب! أليس من غريب المصادفة أن يقوم الجميع وخاصة من النخبة بكتابة التبرئة من التيار الإسلامي السياسي في مرحلة جديدة؟ إنهم فعلاً قوى انتهازية تركب الموجة، ولا يمكن أن ننسى فعلاً أنهم من خلقوا جيلاً ما يزال يعتقد بتكفير المجتمع، لأن عملية التخريب الفكري لا تنتهي بانتهاء المشهد الحالي، إنها تتفاقم وتكبر كحجر تلقيه في بحيرة راكدة، حيث يخلق دوائر تكبر وتكبر كلما ابتعدنا عن المركز.
إن هذا المشهد يؤكد على أهمية مراجعة إفرازات القرن الماضي، وإلا وقعنا في المصيدة الجديدة، وهي قمة الصراع بين القيم والانتهازية التي تبرز كل يوم بلباس جديد يتناسب مع الفكر السائد، ولكنهم في كثير من الأحيان يخبئون تحت جلودهم أفكارهم السوداء التي يحاولون اقتناص الفرصة المناسبة لفرضها على المجتمع. فهم لا يؤمنون من الداخل بقيمة الحوار ولا أهميته. وهم لا يقبلون الآخر فلديهم قناعة تامة بأنهم وحدهم على الحق، وأن هذا الحق اكتسبوه من سلطة إلهية يوهمون أنفسهم أنهم القيمون عليها. إن الحوار وقبول الآخر والتسامح هي القيم البديلة عن تلك الأفكار الأحادية سواء كانت ذات الشمال أم ذات اليمين، فلقد أظهرت تجربة العالم أن الفكر الشمولي لا يؤدي إلا إلى الدمار، وأن الديمقراطية وحدها هي التي فجرت الجانب المبدع في الإنسان بدءاً من الغرب الإسكندنافي، وانتهاءً بأكبر ديمقراطية في العالم حيث ما زالت تثبت جدارتها في أقصى آسيا في الهند حيث ما زال تبادل السلطة يتم بانسيابية في بلد فيه عشرات الأعراق والأديان والملل والنحل، ولكنه مع ذلك يؤمن بأن الوصول إلى الحكم يتم عبر صناديق الاقتراع وليس عبر البنادق أو بتكفير الناس وحرقهم أحياء.