في معظم الملكيات المعاصرة لا تخلو دساتيرها من مواد تجرم التعرض للذات الملكية بالقول أو الفعل، بالنشر أو الكلام المرسل، مباشرة أو إيحاء. وتتضمن تلك المواد عادة العقوبات المناسبة والرادعة. وبطبيعة الحال تختلف النصوص والعقوبات والتسميات من بلد إلى آخر، لكنها جميعها تنطلق من مبدأ واحد هو أن الملك يرمز إلى الأمة ويحمي دستورها، وبالتالي فإن احترامه وتوقيره هو احترام وتوقير للوطن والدستور والأمة، وأن التعرض له يضعف هيبة الدولة والقانون. وإذا بحثنا عن تاريخ نشوء الفكرة وتطورها لوجدنا أنها تعود إلى زمن الإمبراطورية الرومانية التي سنت تشريعات تحمي أباطرتها من الإساءات والانتقادات والشتائم اللاذعة. وبمرور الزمن وظهور الملكيات الاقطاعية في أوروبا، تمسكت الأخيرة بالفكرة، بل وأضافت إليها تشريعات تعاقب أيضاً من يسيء استخدام العملات التي تحمل صورة الملك، سواء أكان متعمداً أو غير متعمد. وبانتهاء عصر الملكيات المطلقة لصالح الملكيات الدستورية، ظهرت تشريعات جديدة أقل حدة لجهة معاقبة من يمس أو يتعرض للذات الملكية بالإساءة. أما الأنظمة "الجمهورية"، التي خلفت الملكيات القديمة، أو نشأت بفعل الانقلابات وحركات التحرر والانفصال، فقد راحت هي الأخرى تسن تشريعات مماثلة للحد من الإساءة إلى رؤسائها ورموزها الكبار، سواء كانوا من ذوي المناصب الشرفية أو خلافها، بل وضعت أيضاً تشريعات تعاقب كل من يسيء أو يتعرض ببذيء الكلام إلى زعماء الدول الصديقة. ففي ألمانيا الاتحادية وسويسرا وبولندا مثلًا لا تصنف الإساءة إلى زعماء البلدان الأخرى علناً، في باب حرية التعبير، وإنما تـُعتبر عملاً غير قانوني يستوجب المحاسبة. ولعل أقرب مثال هو الحكم الذي أصدرته محكمة في "وارسو" بغرامة مالية كبيرة ضد ناشر صحيفة يومية من ذوي الاتجاه الماركسي لإهانته بابا الفاتيكان في يناير 2005 ، والحكم الذي أصدرته المحكمة ذاتها في العام نفسه بالسجن والغرامة ضد ناشط حقوقي لشتمه الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين، ثم الحكم الذي أصدرته السلطات البولندية في عام 2006 باعتقال وسجن مواطن سخر من ملابس رئيس البلاد (وقتذاك) "ليخ فاليسا". وتعتبر مملكة الدانمارك من الممالك الدستورية الأوروبية التي لا يـُعرف عنها أنها طبقت حتى الآن موادها الدستورية ذات الصلة بمعاقبة من يتجرأون على المس بالذات الملكية أو ازدراء الأسرة المالكة. من تلك المواد المادة 267 التي تعاقب بالسجن مدة لا تقل عن أربعة أشهر لمن يتعرض للملك. وهناك المادة 115 التي تضاعف هذه العقوبة حينما تتم الإساءة إلى الملكة أو مجلس الوصاية أو ولي العهد. وفي إسبانيا يعاقب صاحب الجريمة طبقاً للدستور بالسجن لمدة عامين. وفي مملكة هولندا، توجد قوانين مشابهة، وإن كانت العقوبات المقررة فيها لا تخرج عن نطاق الغرامات المالية. فمثلاً عوقب أحد المواطنين في عام 2007 بغرامة بلغت أربعمائة "يورو" لتطاوله على الملكة. وفي اليونان التي استبدلت نظامها الملكي بالنظام الجمهوري في عام 1973، تعاقب المادة 14 من الدستور بالسجن أو الغرامة أو كليهما كل من يتطاول على رئيس الجمهورية أو الكنيسة، أو أي دين من الأديان المعترف بها في البلاد. وإذا أتينا للحديث عن تطبيقات الفكرة في البلاد العربية، نجد أنه في الحالة المغربية يعاقب بالسجن لمدة عام كل من يتعرض للملك بالإساءة في مكان خاص، ومدة ثلاثة أعوام إذا كانت إساءته في مكان عام، ولمدة خمسة أعوام إذا وقعت الإساءة في المكانين معاً. وتشمل الإساءات نشر صور كرتونية ساخرة،أو إطلاق إشاعات مغرضة، أو تبديل وتغيير التراتبية المعروفة في شعار "الله، الوطن، الملك". أما في الحالة الأردنية، فإن القوانين المعمول بها تعاقب بالسجن لمدة أقصاها ثلاث سنوات كل من يسيء إلى الذات الملكية أو يحرض ضد الحكومة أو يعمل على نشر الطائفية وازدراء الأديان أو السخرية من رموزها. وكانت في دساتير الأنظمة الملكية الحاكمة سابقاً في مصر والعراق وليبيا مواد مشابهة تقريباً. ويعتقد الكثيرون خطأ أن اليابان، وهي إحدى الملكيات العريقة في العالم، قد ألغت بعد توقيعها على معاهدة "بوتسدام" في عام 1910 قانون التعرض لذات الإمبراطور الذي كان مطبقاً بموجب دستور "ميجي" لسنة 1889. لكن الحقيقة أن ذات الإمبراطور لا تزال مقدسة، ومن يتجرأ على المس بها يعاقب بعد أن تطالب الحكومة بذلك عبر رئيسها. وفي الهند، كبرى ديمقراطيات العالم، ينص دستورها على أن كل من نوى أو سعى إلى تهديد أو إهانة رئيس الجمهورية بأية صورة من الصور يعاقب بالسجن لمدة قد تمتد إلى سبع سنوات، ويمكن أن تـُفرض عليه الغرامة أيضاً. على أن مملكة سيام (تايلاند) هي الأشد قسوة في العالم لجهة عقوبة المس بالذات الملكية. صحيح أنه حدثت تطورات كثيرة منذ انتقال البلاد من الملكية المطلقة إلى الملكية الدستورية في عام 1932، إلا أن كل الدساتير الـ17 التي عرفتها البلاد ما بين 1932 و 2007 وردت فيها مواد تؤكد على قدسية مكانة الملك، ووجوب احترامه وعدم مس ذاته بأية صورة من الصور، ناهيك عن مواد أخرى تنص على أن "كل من يسيء أو يشهّـر أو يهدد الملك أو الملكة أو ولي العهد أو مجلس الوصاية على العرش يعاقب بالسجن لمدة أدناها ثلاث سنوات، وأقصاها 15 سنة. وعلى الرغم من وجود هذه المواد المتشددة، فإنه لم يعرف عن العاهل التايلاندي الحالي "بهوميبون أدونياديت" أو أي من أفراد أسرته أنهم رفعوا قضية في المحاكم ضد طرف مس ذواتهم أو أساء إليهم، بسبب عدم تمتع الملك أو الأمراء أو الأميرات بحق مقاضاة الآخرين مباشرة، وإنما عبر الحكومة أو شخصيات غير ملكية. وما يجدر بنا الإشارة إليه في هذا المقام هو أن الملك كثيراً ما تدخل للعفو عن أشخاص أساءوا إليه من أولئك الذين تم تجريمهم على يد السلطات القضائية والحكومات العسكرية المتعاقبة كحال سائح سويسري صدر حكم بسجنه لمدة 3 سنوات لتمزيقه صورة الملك قبل عدة أعوام في بانكوك. إضافة إلى العفو، سُجل عن الملك في أكثر من مناسبة قوله إنه ليس فوق النقد، وأن الملك مثله مثل الآخرين قد يخطئ وبالتالي لا بأس من توجيه النقد إليه دون خوف. بقي أن نقول إننا في الخليج لم نكن يوماً ما بحاجة إلى مثل هذه التشريعات وما تتضمنه من عقوبات، لسبب بسيط هو أن الأعراف السائدة والقيم المجتمعية كانت كفيلة دوماً بفرض الاحترام ما بين الحاكم والمحكوم. غير أن ما نشهده اليوم من تطاولات وإساءات وتصرفات طائشة تحت يافطة حرية التعبير وحقوق الإنسان و"الربيع العربي"، مثلما يحدث كل يوم في البحرين ، قلب كل الموازين والأعراف، وشجع بعض الحاقدين والموتورين من خدمة دكاكين حقوق الإنسان الأجنبية على التطاول ببذيء الكلام وقبيح الأفعال والشعارات، الأمر الذي بات معه لا مفر من وضع تشريعات واضحة لمساءلة كل من يتجاوز حدوده.