بات شبه موضة هذه الأيام استعمال القوة "الناعمة" والقوة "الذكية" بكثرة (إذ من منا سيرغب في الدفاع عن القوة "الغبية"؟) بينما باتت القوة "الصلبة" الأميركية موضع طعن وانتقاد. ويعزى هذا جزئياً إلى تضحية رمزية أمام ضغط الأزمة المالية، رغم أن الاقتطاعات المقبلة في ميزانية الدفاع لا تمثل سوى جزء يسير مقارنة بالإنفاق الكبير على البرامج الاجتماعية التي لم تشملها الاقتطاعات. كما أنها جزء من استراتيجية العام الانتخابي بالنسبة لإدارة أوباما والموجهة إلى أمة يفترض أنها ضاقت ذرعاً بالحرب. غير أن ثمة نظرية خلف كل هذا، نظرية ترى أن الولايات المتحدة اعتمدت بشكل مفرط على القوة الصلبة ولوقت طويل؛ وحتى تكون فعالة حقاً في عالم معاصر ومعقد، تحتاج الولايات المتحدة للتركيز على أدوات أخرى. إذ ينبغي أن تكون قوة جذابة وقادرة على الإقناع بدلاً من الإكراه، وأن تحشد وراءها الشركاء وغير الشركاء، باستعمال الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية وغيرها من أجل "رفع" النفوذ الأميركي. والواقع أن هذه حجج معقولة ومنطقية. فالقوة تتخذ عدة أشكال، ومن الذكاء استغلالها كلها. إلا أن ثمة خطراً في الأخذ بهذه الحكمة إلى حد بعيد ونسيان إلى أي مدى كانت (ولا تزال) القوة العسكرية الأميركية مهمة في بناء ودعم النظام الدولي الليبرالي الحالي. فهذا النظام يقوم أساساً على قدرة الولايات المتحدة على توفير الأمن في مناطق من العالم، مثل أوروبا وآسيا، عرفت دورات لا نهاية لها من الحرب قبل مجيء الولايات المتحدة. كما أن الاقتصاد العالمي القائم على حرية السوق، مرهون بقدرة أميركا على تأمين الطرق البحرية وإبقائها مفتوحة، حتى في أوقات الحرب. ثم إن الفضل في الانتشار الواسع للديمقراطية عبر العالم يعود في جزء منه أيضاً إلى قدرة أميركا على توفير الدعم للقوى الديمقراطية المحاصَرة وحماية الشعوب من الأنظمة المستبدة. صحيح أن البعض يرى أنه من غير المعقول أن يكون لدى الولايات المتحدة جيش يفوق حجمه حجم جيوش الدول العشر التالية مجتمعةً؛ غير أن ذلك الفرق في القوة العسكرية ربما يمثل أكبر عامل في الحفاظ على نظام دولي فريد من الناحية التاريخية، ومفيد جداً بالنسبة للأميركيين. كما لا ينبغي أن ننسى أن هذه القوة تمثل جزءاً مما يجعل أميركا جذابة بالنسبة للعديد من الدول الأخرى. فالعالم لا يحب أميركا دائماً. ذلك أنه خلال فترة حرب فيتنام، وفضيحة ووترجيت، والموقف المخجل لدعاة التمييز العنصري... كثيراً ما كانت أميركا مكروهة في العالم. لكن الدول التي كانت تعتمد على الولايات المتحدة في توفير الأمن والحماية لها من الجيران الأقوياء كانت تميل إلى التغاضي عن عيوب واشنطن. ففي الستينيات، مثلاً، خرج ملايين الأوروبيين الشباب إلى الشوارع للاحتجاج على "الإمبريالية" الأميركية، بينما كانت حكوماتهم حريصة على أن يظل تحالفها مع الولايات المتحدة قوياً. وعلاوة على ذلك، فإن القوة الناعمة لها حدود. وأعتقد شخصياً أنه لا يوجد رئيس أميركي حظي بشعبية دولية أكبر من تلك التي حظي بها ويلسون عندما سافر إلى باريس قصد التفاوض بشأن الاتفاقية التي تنهي الحرب العالمية الأولى. فقد كان بطلاً بالنسبة للعالم، لكنه وجد قدرته على صياغة السلام وتأسيس عصبة الأمم قدرة محدودةً، وذلك جزئياً بسبب رفض مواطنيه توريط القوة العسكرية الأميركية في الدفاع عن السلام. كما أن كينيدي، وهو رئيس أميركي آخر كان محبوباً في العالم، وجد شعبيته بلا فائدة في مواجهاته مع خروتشوف، حيث كان هذا الأخير مقتنعاً، ربما بسبب ما كان يراه ضعفاً في كينيدي، بأن الولايات المتحدة ستتسامح مع قيامه بنصب صواريخ سوفييتية في كوبا. إن النظام الدولي ليس في حالة سكون، بل إنه يستجيب بسرعة للتقلبات في القوة. وهكذا، فإذا عمدت الولايات المتحدة إلى تقليص قدرتها على إظهار القوة العسكرية بشكل مفرط، فإنه يمكن التعويل على دول أخرى حتى ترد تبعاً لذلك. فالدول التي تزداد قوة بشكل نسبي تقوم بإظهار طموحات كبيرة تنسجم مع قوتها الجديدة في النظام الدولي. وعلى غرار ما كان يحدث في الماضي، فإنها ستطالب بمجالات نفوذ معينة. وفي تلك الحالة، لن تجد الدول التي تراجعت قوتها بشكل نسبي، مثل الولايات المتحدة، خيارا غير التخلي عن بعض نفوذها في تلك المناطق. وهكذا، فإن الصين قد تطالب بمجال نفوذها في آسيا، وروسيا في أوروبا الشرقية والقوقاز. ومثلما كان يحدث في الماضي، فإن مطالب هذه القوى العظمى الصاعدة ستتداخل وستتعارض: فالهند والصين تطالبان بالمجال نفسه في المحيط الهندي؛ وروسيا وأوروبا لديهما مجالات متداخلة في المنطقة بين البحر الأسود والبلطيق. وبالتالي، فبدون الولايات المتحدة، حتى تكبح وتحتوي هذه الطموحات المتعارضة، سيتعين أن تكون ثمة تعديلات معقدة من أجل إقامة توازن جديد. بعض هذه التعديلات يمكن القيام به من خلال الدبلوماسية، مثلما كان يحدث أحياناً في الماضي، غير أن تعديلات أخرى قد تتم عبر الحرب أو التهديد بها، مثلما حدث في الماضي أيضاً. إن أكبر وهمٍ هو أن نتخيل أنه بينما تتراجع القوة الأميركية، فإن العالم سيظل على حاله. فلا يمكن لأي دولة أو مجموعة دول تخلت عن القوة أن تتوقع الحفاظ على أي نوع من النظام العالمي. وإذا أخذت الولايات المتحدة تبدو في العالم كمدافع ضعيف عن النظام الحالي لا يمكن التعويل عليه كثيراً، فإن ذلك النظام سيبدأ في الانحلال والتفكك لا محالة. صحيح أن الناس قد يجدون الأميركيين جذابين جداً في هذه الحالة الضعيفة، غير أنه إذا كانت الولايات المتحدة لا تستطيع مساعدتهم في الزمان والمكان المناسبين، فإنهم سيقومون باتخاذ تدابير أخرى. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"