في التاريخ الأميركي هناك دوماً نهايات فارقة. فالانهيار المالي عام 1929 أنهى "العشرينيات الصاخبة"، ويوم "النصر على اليابان" أنهى الحرب العالمية الثانية، ويجيء انسحاب القوات الأميركية من العراق ليضع نهاية لعهد. فالحرب التي شُنت عام 2003 وسط تطمينات بتحقيق نصر سريع لم تنته إلا بعد تسع سنوات كاملة وبشروط أقل كثيراً من الشروط التي أُعلنت في البداية، وبدلاً من أن تكون عرض الهيمنة الأميركية، كشفت الحدود الصارخة لقوة أميركا، كما وضعت نهاية لعهد التوقعات الكبرى السائد من الحرب العالمية الثانية. في التسعينيات لفظ الاتحاد السوفييتي أنفاسه الأخيرة، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الأعظم في عالم بعد الاستقطاب الثنائي خلال الحرب الباردة. وتأكدت هيمنة أميركا على الساحة العالمية عندما شنت "عاصفة الصحراء" التي طردت قوات صدام حسين من الكويت، وأثبتت أن العالم قد بدأ يتحرك من الظلام للنور. وعندما كان بوش الأب يُعد الأميركيين لأول مواجهة مع صدام، تنبأ باقتراب "النظام العالمي الجديد"، وهو تنبؤ جعل السياسيين والمعلقين يهرعون لتقديم ترجمة لما يعنيه على أرض الواقع، وأسفرت جهودهم عن ثلاثة ادعاءات كبرى: الادعاء الأول: أيديولوجي، وهو أن سقوط الشيوعية يعني انتصار الديمقراطية الليبرالية انتصاراً تاماً ونهائياً. الادعاء الثاني: اقتصادي، وهو أن نهاية الحرب الباردة أطلقت قوى العولمة والحركة الحرة غير المقيدة للسلع، ورأس المال، والأفكار والبشر. الادعاء الثالث: عسكري، وهو أن تقنية المعلومات المتقدمة أدت لتثوير الحرب حيث أصبحت القوات المسلحة قادرة على استغلال ثمار هذه الثروة لتحقيق فعالية غير مسبوقة. خلقت هذه الادعاءات فرحة غامرة وصلت حد الانتشاء فأصبحنا نسمع من كبار الساسة الأميركيين عبارات مثل: "أميركا أعظم ديمقراطية في العالم، واقتصادها أقوى اقتصاد على ظهر الأرض"، و"الحكم النهائي للتاريخ أن المستقبل ينتمي لأميركا ولمن يتبعون طريقتها في الحياة". كل ذلك قبل أن يأتي 11 سبتمبر الذي ترك القوة الأميركية الجبارة تبدو ضحية للتاريخ أكثر مما هي مصممة له. وكانت استجابة بوش الابن الفورية لهذه الإهانة تهدف ليس لتجنب حدوث هجوم آخر مماثل على أميركا وإنما لمحق الشكوك حول أن التاريخ لم يكن قد مال بعد في اتجاه أميركا. لذلك كانت الحرب العالمية على الإرهاب، حرباً لإثبات السيادة الأميركية على العالم، ولإثبات صحة الادعاءات السابقة والتي تباهت بها الولايات المتحدة. من هذا المنظور كان اختيار صدام حسين ليكون العدو رقم واحد لأميركا اختياراً معقولاً رغم حقيقة أنه لم يكن ذا يد في هجمات 11 سبتمبر، لأن عملية "حرية العراق" كان هدفها الأول إظهار الولايات المتحدة باعتبارها صاحبة القول الفصل في مسيرة التاريخ، وكان نظام صدام حسين المتداعي هو العدو الذي تمكن هزيمته دون أدنى صعوبة. لكن هذا الرهان لم يكن صحيحاً، إذ تبين رغم صحة تداعي وضعف جيوش صدام، والقوة الساحقة لأميركا، أن الصراع له تعقيداته التي لم تقدرها أميركا جيداً. في البداية، وبعد سقوط بغداد، لاح أن النصر في قد بات في المتناول وهو ما دفع بوش لأن يعلن من على ظهر سفينة حربية أن "المهمة قد أنجزت". لم تكن المهمة قد أنجزت بحال من الأحوال، بل اكتشف الأميركيون أن الحرب بدأت للتو، حيث بدأت التعقيدات في الظهور تباعاً، ونتجت عنها خسائر بشرية ومادية فادحة. وكان من أبرز الخسائر التاريخ ذاته الذي أصر الأميركيون فيما سبق على أنه قد حسم لمصلحتهم. والحقيقة أن الخسائر ليست أداة قياس نجاح الحرب أو فشلها، وإنما التداعيات التي تنتج عنها. والتداعيات التي نتجت عن حرب العراق تجعلها تأتي مباشرة وراء الحروب الكبرى للعصر الحديث مثل الحرب العالمية الثانية، وتسبق في الترتيب حروباً مهمةً خاضتها أميركا مثل حربي كوريا و فيتنام. فمنذ عام 1945 حيث انتهت الحرب العالمية الثانية، راكم الأميركيون رصيداً هائلاً من الرأسمال السياسي والمعنوي، ثم جاءت تجربة العراق وذلك الفصل المؤسف من التاريخ الأميركي ليستنزفا ذلك الرصيد. فبعد العراق لن يحمل المستقبل عبارة "صنع في أميركا" بعد بروز قوى جديدة مثل الصين. وبالنسبة للديمقراطية فإنها حتى في الأماكن التي تكون النداءات المطالبة بها هي الأعلى، وكما في العالم العربي حالياً، فالمحصلة النهائية قد لا تكون في صالح القيم الليبرالية. كما أن الثقة بأن العولمة سوف تعرّف المستقبل الاقتصادي، قد تعرضت لانهيار حاد. مجال القوة العسكرية هو المجال الوحيد الذي احتفظت فيه أميركا بتفوقها الظاهر، لكن قيمة هذا الادعاء بعد تجربة العراق وأفغانستان وغيرها من المهام العاجلة في أماكن مختلفة من العلم، باتت محل شك كبير. معنى ذلك أن كافة الادعاءات والمزاعم التي برزت بعد نهاية الحرب الباردة قد استقرت أخيراً في مقبرة بدون شاهد مخصصة للأفكار الفاشلة. أندرو بيسفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"