يبدو أنها لحظة تاريخية، كما أجمعت الخطابات الرسمية بالمناسبة، ليس فقط بالنظر لحجم المشكلات والأعباء والتحديات التي يتعين على الرئيس الجديد مواجهتها، ولكن أيضاً لأنها المرة الأولى التي يتم فيها انتقال السلطة سلمياً في هذا البلد منذ استقلاله قبل 22 عاماً. حدث هذا الانتقال، وتتالت تلك الخطابات في بشكيك يوم الخميس الماضي، بمناسبة تنصيب الماظبيك أتامباييف كرابع رئيس لقرغيزستان، حيث أدى اليمين الدستورية وأقسم "أن يكون عادلاً في ممارسة مهامه كرئيس دولة، وأن يدافع عن حقوق الإنسان والمواطن واحترام الدستور". وكما اعتبر الانتخابات الرئاسية "لحظة تاريخية" بالتشديد على ما تواجهه البلاد من تحديات كبيرة، فقد قالت حليفته، الرئيسة الانتقالية المنتهية ولايتها، روزا أوتونباييفا: "نحن شهود على لحظة تاريخية لدولة وشعب قرغيزستان، إننا نؤسس تقليداً جديداً هو الانتقال السلمي للسلطة". هذا، وقد فاز أتامباييف في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة القرغيزية التي جرت يوم 30 أكتوبر الماضي، متقدماً على 15 مرشحاً يتصدرهم الرئيس الأسبق للبرلمان أداخان مادوماروف والملاكم السابق كاتشيمبك تاشييف، واللذان لم يتجاوز أي منهما حاجز الـ15 في المئة، وفقاً للجنة الانتخابية المركزية، بينما حقق أتامباييف مفاجأة كبرى بنيله 63 من أصوات الناخبين. وأتامباييف سياسي ورجل أعمال قيرغيزي، يترأس "الحزب الاجتماعي الديمقراطي لقرغيزستان". وقد ولد في "آرشتا" عام 1956، ولمع نجمه في سماء الحياة العامة منذ التسعينيات، فكان معارضاً في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى كان يتقلد منصباً وزارياً، بل تولى رئاسة الحكومة لمرتين. لكن ترشح أتامباييف لانتخابات الرئاسة القرغيزية عام 2000، كان بمثابة انطلاق قوي له، رغم أنه لم يحصل سوى على 6 في المئة من أصوات الناخبين، لكنه برز كمعارض لحكومة عسكر آكاييف، قبل أن ينضم إلى أول حكومة أعقبت الثورة التي أطاحت بباكاييف عام 2005، حيث تقلد في ديسمبر من ذلك العام حقيبة الصناعة، لكنه استقال منها في إبريل 2006 متهماً السلطة الجديدة بالسير على نهج سابقاتها في الفساد والمحسوبية. بيد أنه ظل معارضاً معتدلا، فعاد الرئيس باكاييف، في مارس 2007، وكلفه برئاسة الحكومة. وفي هذه المرة أيضاً لم يطل بقاؤه كثيراً في المنصب، فبعد الاستفتاء على دستور 21 أكتوبر 2007، أعلن باكاييف حل الحكومة متعهداً بالتجديد لها عقب الانتخابات البرلمانية المقررة في ديسمبر، لكن أتامباييف أعلن في 28 أكتوبر استقالته نهائياً من الوزارة والعودة إلى المعارضة مجدداً. وكمعارض، أعلن أتامباييف، في 20 إبريل 2009، ترشحه للانتخابات الرئاسية المقررة في 23 يوليو من ذلك العام، ليرفع نسبته هذه المرة إلى 8?4 في المئة من الأصوات. لكنه انسحب من السباق يوم الاقتراع، معتبراً الانتخابات فاسدة وغير عادلة لما شابها من تزوير وتلاعب. ثم كان أتامباييف على موعد مع الحكم مجدداً، وذلك عقب الثورة التي أطاحت بباكاييف من سدة السلطة، حيث أصبحت روزا أوتامباييفا على رأس الحكومة المؤقتة، فاختارت أتامباييف نائباً لها، قبل إجراء تعديل على هيكل نظام الحكم المؤقت، تولت بموجبه أوتامباييفا الرئاسة الانتقالية، بينما أسندت رئاسة الحكومة إلى أتامباييف. وخلال فترته القصيرة كنائب لأوتامباييفا، بدا أتامباييف مهموماً بتطوير البلاد في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية والتنمية الاجتماعية، كما أظهر عزماً على محاربة الفساد ومكافحة الأمراض البيروقراطية. ولعل ذلك جلب شعبية لحزبه، حيث منحته الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم 10 أكتوبر 2010، نسبة 14?5 في المئة من الأصوات، محتلا المرتبة الثانية بعد حلفائه القوميين في حزب "آتا -زهيرت". وكما كان متوقعاً، فقد طُرح اسم أتامباييف كمرشح لرئاسة الحكومة، ليفوز بتأييد 88 نائباً من أصل 120. ويومها طرح أتامباييف أمام البرلمان رؤيته حول سياسة خارجية قريبة من روسيا، معلناً أن أول زيارة رسمية خارجية ستأخذه إلى موسكو، في اعتراف بـ"الدعم القوي" الذي تلقاه من روسيا، كما وعد بضم قرغيزستان إلى الاتحاد الجمركي بين روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، معرباً كذلك عن الرغبة في تطوير علاقات بلاده بجيرانها الإقليميين الآخرين، وبكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا. بيد أن أتامباييف ترك قيادة الحكومة لنائبه عمربيك بابانوف، وذلك في 23 سبتمبر الماضي، ليخوض سباق الانتخابات الرئاسية في 30 أكتوبر، والذي فاز في شوطه الأول، قبل أن يؤدي اليمين الدستورية ويتسلم مهامه رسمياً يوم الخميس الماضي. وإذا ما أراد الرئيس القرغيزي الجديد أن تكون لحظة انتخابه لحظة فارقة وتاريخية بالفعل، كما قال في خطاب تنصيبه، فعليه الاستجابة لبعض التحديات ذات الأولية؛ وفي مقدمتها إعادة الصدقية للعملية الديمقراطية التي أصبحت موضع تشكيك من قبل خصومه، لاسيما مادوماروف وتاشييف، اللذين طعنا في فوزه واعتبراه نتيجة لتزوير وغش ممنهجين. وكما لا يصح الانطلاق بالبلاد عبر عملية سياسية منقوصة الصدقية، كذلك لا يمكن تحقيق الاستقرار والرخاء دون جهود حقيقية للتطوير الاقتصادي والاجتماعي في بلد يعد الأكثر فقراً بين دول آسيا الوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. هذا علاوة على أن الاقتصاد القرغيزي قد تضرر كثيراً جراء أعمال العنف التي هزت البلاد خلال الأعوام الماضية، ومنها الانتفاضة التي أطاحت بنظام كرمانبيك باكاييف عام 2010، وقبل ذلك كان باكاييف نفسه قد وصل إلى الحكم، في عام 2005، عبر انتفاضة عنيفة أطاحت بعسكر أكاييف الذي تولى الحكم منذ عام 1990 في أواخر الفترة السوفييتية. هذا علاوة على ما تعانيه قرغيزستان من انقسام عرقي وجغرافي عكسته المواجهات الدامية بجنوب البلاد صيف العام الماضي، بين الغالبية القرغيزية والأقلية الأوزبكية، كما أظهرته الانتخابات الرئاسية الأخيرة حين بدت في أحد أوجهها صراعاً بين الجنوب والشمال، أو القرغيز والأوزبك. يحدث هذا بينما يمثل استقرار قرغيزستان قضية حيوية للقوى الدولية الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة التي تملك في قرغيزستان قاعدة جوية أسياسية لوجودها في أفغانستان، كما تملك روسيا بنى تحتية عسكرية هي الأخرى هناك. ورغم كل الأعباء والتحديات، فمن الواضح أن أتامباييف يعول داخلياً على سجله كمناهض للفساد، وخارجياً على علاقاته بروسيا... وقبل هذا وذاك على خبرته كمفاوض براغماتي بارع جاء في "لحظة تاريخية"! محمد ولد المنى