كان مشهد موت "العقيد القذافي" بين أيدي الشباب الثائر الذي سماه بالجرذان مثيراً وعنيفاً واستعراضياً على غرار مسار الرجل الذي حكم ليبيا اثنتي وأربعين سنة كاملة. لم يحظ القذافي بالمحاكمة العادلة التي وعد بها المجلس الوطني الانتقالي. وعلى الرغم من التبريرات والشروح التي قدمتها بعض قيادات الثورة الليبية، فإن الصور والمشاهد التي تسربت عن مقتل القذافي، تبين بجلاء أنه قتل على يد خصومه أي ضحاياه الذين أذاقهم الكأس نفسها من قبل. ويطرح مقتل القذافي السؤال الجوهري حول الحد الفاصل بين العدالة كقيمة إنسانية عليا والانتقام كفعل وحشي مهما كانت فظاعة ودموية الضحية. بكاة القذافي قليلون، وحتى رفيق مساره "عبد السلام جلود" احتفى برحيله ووصفه بالعيد الوطني للشعب الليبي، ولم يصمد على الأرض مع العقيد المهزوم سوى أفراد معدودين من عائلته وحرسه الشخصي. إنه مشهد فريد في تاريخ العرب المعاصر، لا يمكن أن يقارن حتى مع مشهد إعدام الرئيس العراقي السابق "صدام حسين " الذي حدث بعد محاكمة طويلة قيل حولها الكثير، كما قيل الكثير عن ظرفية الإعدام وملابساته. وإذا كنا قد قارنا هذه الأيام مقارنات متسرعة بين الرجلين، فالواقع أنهما يختلفان من حيث التركيبة النفسية والخلفية الثقافية والمسار السياسي، على الرغم من اشتراكهما في الأصول الريفية المتواضعة وفي الجهل الفادح بحقائق العصر وأوضاع العالم الحديث. ظهر صدام في السياق الفكري والسياسي للعراق ما بعد الهاشمي، وانتمى مبكراً للتيار البعثي الذي كان له أوانها حضور مكين وتجربة ثرية في كامل المشرق العربي، وورث السلطة عن قيادة حزبية شاركت في السلطة قبل أن تنفرد بها منذ بداية الستينيات. صحيح أن الطابع الحزبي للحكم تقلص تدريجياً إلى أن أصبح الحكم شخصياً انفراديا بعد أن تخلص من كل رفقائه وأعوانه، إلا أنه ظل متمسكاً بالمرجعية العقدية والإيديولوجية لحزب "البعث" الذي حوله إلى أحد الأجهزة القمعية في نظام حكمه. أما القذافي الذي ظهر في بيئة مقطوعة عن العالم، فقد انحصرت تجربته السياسية عند استلامه للحكم - في العشرينيات من عمره - في نمط من الانجذاب العاطفي لشخصية الزعيم المصري "جمال عبد الناصر"، الذي أراد إعادة تمثيل تجربته، على اختلاف السياق والظرفية والأرضية وتباين سمات الشخصية. لم يكن القذافي أحد نماذج الحكام العسكريين التقليديين الذين عرفتهم الساحة العربية في نصف القرن الأخير. فعلى الرغم من انتمائه للمؤسسة العسكرية ووصوله للسلطة عن طريق انقلاب بسيط وسهل قام به مجموعة صغيرة من الضباط الشبان، إلا أن الجيش لم يشكل العمود الفقري لنظام حكمه، بل سعى لتقويضه واستبدله بنمط من المليشيا العقدية – العشائرية الموالية. كما أن القذافي تخلى منذ منتصف السبعينيات عن النموذج الناصري، بعد أن أدعى اكتشاف "النظرية العالمية الثالثة" التي اعتبر أن فيها "حلاً لجميع مشاكل البشرية". وتقوم النظرية المذكورة على نهج "الديمقراطية المباشرة" سياسياً و"الاشتراكية الاجتماعية" اقتصادياً. ظهرت في كتاب القذافي "الأخضر" المقولات التي اشتهر بها وتحولت إلى "إنجيل" يتلى قبل نشرات الأخبار وفي المناسبات الرسمية مثل عبارات من قبيل "التمثيل تدجيل" و"المجالس الانتخابية أحكام غيابية" و "من تحزب خان" و"البيت لساكنه " و"السود سيسودون العالم"... نظمت المؤتمرات الفكرية الحاشدة لشرح الكتاب الأخضر ونشره في العالم، في طموح صريح ومعلن إلى تغيير مجرى الفكر الإنساني واستحداث مصطلحات بديلة عن العلوم الاجتماعية والنظريات السياسية. والمثير في الأمر، أن القذافي صدق نفسه فعلًا، وآمن بالمهمة الرسالية الكبرى التي نذر نفسه لها. ففي إحدى الندوات التي حضرها كتاب ومفكرون غربيون بارزون في بداية الثمانينات قال لجلسائه بصراحة لا لبس فيها أن الكتاب الأخضر قد "نسخ كل ما قبله من فلسفة وفكر وإيديولوجيا". كان يحلو للقذافي أن يلتقي في خيمته ببعض الكتاب والمثقفين خارج الأطر الرسمية، وقد حدثني أحد هؤلاء أنه فوجئ أن الرجل الذي يقرأ ويطالع كثيراً (دون كبير استيعاب) كان مقتنعاً بعمق أنه مزيج ناجح من العالم الفقيه المتجدد والفيلسوف المفكر والثائر المتمرد. وكان القذافي يجد دوماً من رجالات العلم والفكر من يسوق الحجج والبراهين على أغرب آرائه وأفكاره، إلى حد أن أحد كبار المتخصصين في الأدب الإنجليزي كتب دراسة مطولة على "الأصول العربية لشكسبير" مدللًا على قولة العقيد بأن الاسم الأصلي للأديب الانجليزي الكبير هو "الشيخ زبير". وعندما قدم أطروحته الغريبة لحل الصراع العربي – الصهيوني بإنشاء "دولة أسراطين" الجامعة بين الكيانين الإسرائيلي والفلسطيني، قدم عدد من أساتذة العلاقات الدولية والعلوم السياسية قراءات وشروح مسهبة في هذا المشروع السريالي، الذي حرص في إحدى القمم العربية على شرحه للحاضرين على طريقة المعلم لطلابه. وإذا كان القذافي حافظ طيلة عهده الطويل على حس براغماتي مكنه من اجتياز العواصف الهوجاء التي كادت أن تعصف به مرات عديدة، إلا أنه كان بالفعل صادقاً في رومانسيته الثورية الدنكشوتية، وكان يستغرب دوماً أمام جلسائه كيف أن العالم لم يدرك عبقريته السياسية، ولم يطبق نظامه الجماهيري الذي كان في حقيقته فوضى عارمة قضت على بنية الدولة الحديثة في ليبيا. كان الأحرى بثوار ليبيا الإبقاء على القذافي حياً ليحاكمه الشعب الليبي على ما اقترف في حقه من جرائم، ومن أجل الاستماع إليه شاهداً من نوع خاص على مرحلة حاسمة من تاريخ العرب المعاصر.كان من الضروري الإبقاء على القذافي ليشاهد بعيني رأسه كيف انهار مشروعه السريالي الساذج، وكيف هزمت أفكاره الغرائبية التي آمن برصانتها وصلوحيتها للتطبيق والاحتذاء. لم يكن من المناسب السماح للعقيد المهزوم بالتحول لنمط من "تشي غيفارا" الذي مات حاملًا سلاحه، حتى ولو كان الذي أعدمه هم أبناء شعبه ويتامى ضحايا مذابحه.