على مدار التاريخ شهد علم الاقتصاد تطوراً واضحاً في نظرياته وتوسعاً في مدارسه واتجاهاته، فتحول من مجرد "علم كئيب" إلى علم يحاول فهم آليات الوفرة والندرة وطرح الأفكار لتحقيق الرفاه والازدهار. وفي رحلته الطويلة انتقل علم الاقتصاد من التكهن بمستقبل لا يبدو مشرقاً إلى دراسة التشعبات المالية المعقدة للتحكم في التضخم وضبط التوازنات الاقتصادية الكبرى. لكن تطور علم الاقتصاد ونضجه لم يكن ليحدث في رأي الكاتبة الأميركية والمراسلة الاقتصادية السابقة لـ"نيويورك تايمز"، سيلفيا ناصار، لولا مجموعة من الشخصيات البارزة بصمت هذا العلم بمساهماتها وغيرت وجه الممارسة الاقتصادية في العالم، وهي مساهمات تتناولها المؤلفة في كتابها الذي نعرضه هنا؛ "المسعى العظيم... قصة النبوغ الاقتصادي". ويأتي الكتاب بينما يشهد العالم أزمة اقتصادية طاحنة وغياباً للأفكار المطمئنة، أزمة لم يستشعر أحد قدومها، ما حدا بكثير من المراقبين إلى وضع مجمل علم الاقتصاد في قفص الاتهام وتحميله مسؤولية التجاوزات الحاصلة بسبب الأفكار والنظريات التي روج لها بعض الاقتصاديين وساهمت في تعميق الأزمة. لكن الكاتبة لا تسعى إلى تحميل علم الاقتصاد مسؤولية الأزمة الحالية، لأن الخبير أو المستشار الاقتصادي لدى دوائر القرار يبقى كائناً سياسياً بالدرجة الأولى، ناهيك عن أن الاقتصاد نفسه ليس علماً دقيقاً، وإنما يبقى في أفضل الأحوال نظريات تسعى لمقاربة المواقع وفهمه. لكن بعيداً عن هذا الجدل حول مدى دقة العلم وإجابته عن الأسئلة الملحة، تريد المؤلفة من كتابها أن يكون عرضاً لأهم الأفكار الاقتصادية التي ميزت الفترة بين 1850 و1950، مركزة على الوجوه البارزة في عالم الاقتصاد والتي أثرت في عصرها وفي الأجيال اللاحقة من الاقتصاديين وتركت بصمة واضحة في تصوراتنا حول إدارة الشأن الاقتصادي. وهكذا يتوزع الكتاب بين ثلاث مشاهد رئيسية: "الأمل" و"الخوف" و"الثقة". فالأمل الذي استهلت به المؤلفة كتابها يحيل إلى الأجواء المتفائلة خلال العصر الفكتوري في بريطانيا وتأكيد مفكريه ورموزه، بدءاً من "تشارلز ديكنز" إلى "كارل ماركس"، على قدرة الدول على حل مشكلات الفقر والاختلالات الناجمة على الثورة الصناعية. بيد أن هذه الأجواء المتفائلة سرعان ما أفسحت الطريق أمام الخوف الذي استبد بالمفكرين بين الحربين العالميتين بعد التضخم الكبير في الأسعار ومجيء الكساد الاقتصادي العظيم الذي ضرب العالم في العشرينيات، فيما ستعود الثقة مرة أخرى إلى الساحة الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من رفاه اقتصادي نظّر له المفكر كينز الداعي إلى تدخل الحكومات وإنفاق الدولة للحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى. وتبدأ المؤلفة عرضها لأبرز الشخصيات الاقتصادية التي ساهمت في تطوير علم الاقتصاد بنظرياتها وتصوراتها، بالفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى في فيينا، وتحديداً مع "جوزيف شومبيتر" و"فريديريك هايك"، فقد انتخب "شومبيتر" رئيساً لأقدم بنك استثماري في النمسا بعد فشله في منصبه كوزير للمالية واستمرار الأزمة الاقتصادية التي كان من مظاهرها انهيار العملة النقدية إثر هزيمة النمسا، وتفكيك الإمبراطورية النمساوية المجرية. لكن بعد الانهيار الكبير لسوق الأسهم عام 1924 خسر شومبيتر سمعته بسبب تجاوزاته الأخلاقية، وإن كان حافظ على مصداقيته كمنظر اقتصادي مدافع عن اقتصاد السوق. وعلى غرار "شومبيتر"، ترسم المؤلفة لوحة شخصية لمفكر آخر هو الأميركي "إيرفينج فيشر" الذي كان أول من دعا إلى الكف عن تقييم الأوراق النقدية بالذهب والاكتفاء بالأوراق المالية، لكنه وقع في أخطاء تقول الكاتبة إنها عادة ما تتكرر مع الاقتصاديين، وهي الفجوة بين التنظير الأكاديمي والتأليف النظري وبين ما يحفل به الواقع الاقتصادي من مفاجآت تستعصي أحياناً حتى على أكثر الخبراء الاقتصاديين مهارة. ويرجع ذلك حسب المؤلفة إلى الطبيعة البشرية من جهة، وعلم الاقتصاد غير الدقيق من جهة أخرى. فالمفكرون رغم صرامتهم العلمية تحركهم الأفكار المسبقة، مثل ميلتون فريدمان الذي دافع على مبدأ تقني محض يتمثل في تعويم صرف العملة وعدم تحديد الأسعار، لإيمانه بالحرية المطلقة للنشاط الاقتصادي، وليس لأن الفكرة مفيدة بذاتها. وهو ما ينطبق على جل الاقتصاديين سواء الذين دافعوا عن اقتصاد السوق في نسخته المتوحشة، أو حتى الذين فضلوا تدخل الدولة. زهير الكساب ------ الكتاب: المسعى العظيم... قصة النبوغ الاقتصادي المؤلفة: سيلفيا ناصار الناشر: سيمون أند شوستر تاريخ النشر: 2011