الاستغلال الوظيفي من أكثر ممارسات الفساد شيوعاً في العالم ولا يكاد يخلو منه مجتمع ولكنه يزيد أو ينقص باختلاف الأنظمة وصرامتها في تطبيق القانون. وهو يحصل عندما يسخّر المسؤول الصلاحيات المتاحة لديه في تحقيق مصالح شخصية والتربّح غير المشروع، دون اعتبار للأمانة أو المسؤولية. وتزداد الأمور سوءاً إذا كانت القوانين لا تساعد على وضع حد لهذه الممارسات أو أن القانون لا يطبق إلا على أشخاص دون غيرهم. والاستغلال الوظيفي أشكال وأنواع، فقد يكون فاعله موظفاً بسيطاً كالفرّاش أو أمين مخزن يستغل صلاحياته في تموين منزله شهريّاً بالشاي والقهوة والسكر المخصص للموظفين ويكون بذلك قد أباح لنفسه سرقة المال العام. أو بحجم مسؤول كبير تقع تحت تصرفه مشاريع بمئات الملايين ويرسيها لصالح شركة أنشأها حديثاً بغير إسمه، أو من يدفع له تحت الطاولة، وهذا من أشكال الفساد والتكسب غير المشروع. قبل عدة سنوات، شاعت ممارسات فاضحة من الاستغلال الوظيفي لمسؤولين في شركات عقارية في بعض مدن الدولة أيام الطفرة العقارية، وجنوا لحساباتهم الخاصة ملايين الدراهم، إلا أن هذه الممارسات كُشفت لاحقاً وتناولتها الصحف، لتتم محاسبتهم قضائيّاً. قصص مختلفة تُحكى هنا وهناك عن حالات الاستغلال الوظيفي، وإن كانت في نظر البعض بسيطة وغير شنيعة كأن يطلب أحد الموظفين من سائق سيارة الشركة توصيل أبنائه للمدرسة، أو أن يقوم آخر بطباعة مَلازم ورقية لزوجته أو لابنه باستخدام طابعة جهة العمل، أو ممارسات فجة مثل قيام أحد المسؤولين بترتيب احتفال بعيد ميلاد موظف في قسمه في فندق راقٍ، وإحالة الفاتورة إلى جهة العمل على أساس أنه كان لقاء عمل! ومثل هذه الممارسات وتلك، لا يمكن القضاء عليها بأن تركن الأمور إلى أخلاق الناس وضمائرهم حتى يتجنبوا استغلال وظائفهم أو الوقوع في ممارسات تتفق كل الشرائع والدساتير على رفضها واستهجانها، ولذلك جاءت التشريعات والقوانين والنظم سواءً كانت سماوية أم وضعية وبغض النظر عن خلفياتها الفلسفية والفكرية لوضع نظام يضبط سير المجتمع ويحقق فيه العدالة والأمن والمساواة دون إخلال. كثير من الناس تغيب ضمائرهم وتضمحل ولا تردعهم النواهي الأخلاقية ولا الآيات القرآنية، ولذلك تصح مقولة (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ومعناه يمنع بالسلطان من اقتراف المحرمات، أكثر ما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، ونهي القرآن، بل يقدم على المحرمات ولا يبالي، ولكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان، ارتدع، وخاف من العقوبة. والمطلوب تعزيز التشديد على تطبيق اللوائح والنظم والقوانين في بيئات العمل، ومحاسبة المفسدين من المستغلين لوظائفهم في تحقيق المصالح الشخصية، وتفعيل دور جهات التدقيق الداخلية والخارجية على الدوائر والمؤسسات، والكشف عن الممارسات والخروقات إعلاميّاً ومحاسبة المسؤولين. إلا أن ذلك ليس كفيلاً بالقضاء على الظاهرة أو التقليل منها إن كانت قيمة الأمانة والمسؤولية غائبة لدى الناس، ومهما كان القانون صارماً فإن التجاوزات ستظل. والصورة المثالية لا تكون إلا بأن يرقى أفراد المجتمع بأخلاقهم وسلوكهم وممارساتهم وتربيتهم لأبنائهم حتى تنشأ أجيال جديدة تتربى على القيم النبيلة والمثل العليا.