اتخذ الجدل حول دور أميركا العالمي اتجاهاً مقلقاً في الآونة الأخيرة، وذلك عندما أسست العديد من الشخصيات البارزة خطابها على ضرورة انسحاب أميركا من مختلف مناطق الصراع، ومن أي اشتباك بالشؤون الدولية على نحو عام. واللافت أن الأصوات التي تنادي بذلك والموجودة على الهامش السياسي، تجد صدى لها لدى شخصيات في التيار الرئيسي، لا بل إن أوباما نفسه انجرف لذلك التيار، عندما أشار مؤخراً إلى ضرورة " التركيز على بناء الأمم هنا في الوطن". وعدم ارتياح الأميركيين للانخراط العالمي أمر مفهوم حيث يأتي في وقت ترتفع فيه البطالة في بلدهم ويسود عدم يقين اقتصادي. وليس من المرجح والحال هذه أن يؤيد الأميركيون الأهداف الدولية لبلدهم إلا إذا تأكدوا أولاً بأن تحقيقها سوف يعزز المصالح الوطنية في المقام الأول. ودعوات الانعزالية التي تتردد بقوة في الولايات المتحدة حالياً سوف تعود على البلاد بأوخم العواقب فيما إذا تمت الاستجابة لها خصوصاً على ضوء التغيرات السياسية الجارية في الشرق الأوسط حالياً، والصراع من أجل الديمقراطية في الدول العربية. وقد يكون من المفيد في هذا السياق تذكر الطريقة التي استفادت بها الولايات المتحدة من الثورات التي اجتاحت دول الإمبراطورية السوفييتية السابقة خلال الفترة 1989 -1991. ففي تلك الفترة اندلعت الثورات في أربع من دول الكتلة الشرقية التي كانت خاضعة للهيمنة السوفييتية، وهي ألمانيا الشرقية، والمجر، وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا. وكان الصراع بين الكتلتين إبان الحرب الباردة قد مثّل تهديداً للسلام العالمي حيث وقعت أحداث بينهما في أكثر من مناسبة أنذرت بالتصعيد والتحول إلى صراع نووي بين القوتين العظميين. وأدت أحداث عام 1989 إلى انتشار الحكم الديمقراطي في وسط أوروبا ومنطقة البلطيق والبلقان وأصبحت هذه الدول الآن إما أعضاء في الاتحاد الأوروبي أو تسعى لنيل عضويته ولم تعد مصدر توتر كما كانت، بل تحولت إلى دول طبيعية تعاني ما تعانيه الدول من مشكلات. صحيح أن التطورات في روسيا نفسها لم تكن مشجعه، إلا أن روسيا اليوم لم تعد -كما كانت من قبل- تمثل مصدر تهديد عسكري كبير سواء لأوروبا أو للولايات المتحدة، بصرف النظر عن عدوانها على جورجيا عام 2008. وقد حدث تحول دول أوروبا الشرقية من التوتاليتارية إلى الديمقراطية عبر انخراط عميق من الديمقراطيات الغربية تحت القيادة الأميركية. وكان هناك دعم من الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة لكافة الإجراءات اللازمة لبناء أوروبا موحدة وديمقراطية في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ويمكن القول إن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة كان يساوي بالفعل ما دفع فيه من نفقات. وحالياً تجد الولايات المتحدة نفسها في لحظة تاريخية مماثلة: فمن المعروف أن منطقة الشرق الأوسط كانت من المناطق التي تجاوزها المد الديمقراطي الذي شمل العالم منذ عقد من الزمن، حيث أنتجت دول المنطقة حكاماً طغاة استبدوا بشعوبهم وقتلوا مواطنيهم وشنوا الحروب على الجيران وعطلوا الإصلاح السياسي، وشجعوا على الإرهاب. وفي الوقت الراهن تأتي دول الشرق الأوسط وشرق أفريقيا في مؤخرة الترتيب على قائمة مؤشرات الديمقراطية بدءاً من حرية الصحافة إلى حكم القانون إلى حقوق الأقليات إلى المساواة بين الجنسين. وكانت التكلفة التي تكبدتها الولايات المتحدة في تلك المنطقة على المستوى المعنوي والدبلوماسي والمالي -ومن ناحية الخسائر البشرية كذلك- ضخمة حقاً. والانتفاضات التي وقعت في تونس ومصر وسوريا ودول أخرى تقول بأن العرب يريدون نفس الحريات التي تتمتع بها الشعوب الأخرى. لكن بينما كان الانتقال إلى الديمقراطية سلساً نسبياً في شرق أوروبا، فإن العقبات التي تواجه هذا الانتقال في الشرق الأوسط هائلة حقاً. فبالإضافة إلى التراجع الاقتصادي ومستويات البطالة المفزعة، هناك الجيران المعادين والنخب اللامبالية التي تتبنى فلسفة "إما أن أحكمكم أو أقتلكم". وعلى النقيض من الدول التي تحررت من ربقة الشيوعية، فإن دول الشرق الأوسط لا تجد منظمة مثل الاتحاد الأوروبي، تمد لها يد العون، وتسهل لها الانتقال. وفي حين أن معظم الثورات العربية هي ثورات نابعة من الداخل، إلا أن العديد من شخصياتها البارزة أوضحت بجلاء أن الانخراط الأميركي في شؤونها ضروري من أجل تعزيز المكاسب، وضمان ترسيخ التقدم المتحقق حتى لا يحدث أي تراجع عنه. وهؤلاء الذين يريدون بناء ثقافة ديمقراطية في مصر والتحرر من الديكتاتورية في سوريا، لن يجدوا إلهامهم بالتأكيد في حوار أميركي يسيطر عليه هؤلاء الذين ينادون بالعودة إلى الانعزالية وإلى "بناء الأمم هنا في الوطن". وإذا ما أرادت الولايات المتحدة دفع الثورات العربية قدماً للأمام، فعلى إدارة أوباما وقيادة الحزب الجمهوري التأكيد على إدراكهما المخاطر العالية التي ينطوي عليها هذا الأمر، وعلى رغبتهما في الاتحاد معاً من أجل دعم القوى الديمقراطية في المنطقة. لقد ساهمت أميركا من قبل في مسيرة الديمقراطية في العديد من البلدان حين ضفرت إيمانها بالمثل الديمقراطية مع عزيمتها وصبرها. وهذه الصفات على وجه التحديد مطلوبة حالياً في الشرق الأوسط للوفاء بمطالب الحرية في منطقة سيطر عليها الطغيان والقمع طويلاً، ذلك لأنه لو أخفق الربيع العربي، وتمكن الاستبداد من استعادة سيطرته مرة أخرى، فإن أميركا سوف تكون من ضمن الخاسرين. ديفيد جيه. كرامر رئيس منظمة "فريدوم هاوس" أرش بدينجتون مدير الأبحاث بالمنظمة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"