كثيراً ما ينحي عليّ "شارلز لين" باللائمة لدفاعي المستمر عن النموذج الاقتصادي الألماني، ويستفسر مني دوماً عن مغزى هذا الإعجاب بالألمان؟ وهل اعتقد حقاً أن الولايات المتحدة قادرة على إجراء نفس التغييرات البنيوية في الاقتصاد التي أجرتها ألمانيا؟ وهل نحن قادرون على إجرائها بالسرعة اللازمة لمساعدتنا على الخروج من الركود الكبير الحالي؟ إجابتي عن هذه الأسئلة هي: لا ثم لا؟ لأن المعجزة الاقتصادية الألمانية هي في الحقيقة نتاج للترتيبات المؤسسية التي ظلت تختمر طيلة عقود، إنْ لم يكن قرون في بعض الحالات، وهو ما يعتبر في مجمله شيئاً غريباً، وغير معتاد، بالنسبة للطريقة الأميركية في عمل الأشياء. وهذه المعجزة نتاج أشياء أخرى، منها أن ألمانيا حافظت على متانة وحجم قطاعها الصناعي، الذي ينتج كافة المنتجات العالمية الراقية والمشهورة التي نعرفها. ومنها أن الغالبية العظمى من الشركات العاملة في هذا المجال (الصناعي) في ألمانيا، هي من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم الممولة من قبل البنوك، وليست شركات هائلة الحجم تمولها أسواق المال الكبرى، كما هو الحال في الولايات المتحدة. وهذه الشركات غالباً ما تكون مملوكة لعائلات تهتم في المقام الأول بتنمية شركاتها وتطويرها أكثر من اهتمامها بحملة الأسهم، كما أن القانون الألماني يستلزم أن تكون مجالس إدارات تلك الشركات مكونة من ممثلين عن العمال وعن الإدارة بنسب متساوية. هل أنا حقاً أعتقد أن مثل هذه الأشياء يمكن أن تحدث هنا؟ إذا لم تقدم أميركا على إنجاز التغييرات المطلوبة، والتي لا أستطيع أن أحددها على وجه الدقة، فإن إجابتي على السؤال هي بالنفي. فقد عجزت أقوى اتحادات العمال في أميركا، عندما كانت قوة تلك الاتحادات في ذروتها في أربعينيات القرن الماضي، على تحقيق مطالب عمال "جنرال موتورز" برفع الأجور، وليس من المتصور بالتالي أن تتمكن الآن - أو حتى في أي وقت في المستقبل القريب - وهي في أدنى درجات ضعفها، من تحقيق التمثيل المتساوي بينها وبين الإداريين في مجالس الإدارات كما هو الحال في ألمانيا. و"لين" لايجادل بشأن النجاح الألماني، ولكنه يتساءل فيما إذا كنت أفهم العوامل الكامنة وراءه. فهو يرى أن الاقتصاد الألماني يحقق نجاحاً، لأنه عمل على مدى سنوات لأن يصبح أكثر أميركيةً. وأشار "لين" في معرض تدليله على ذلك أن اتحادات العمال الألمانية قد وافقت على إبقاء مستوى الأجور عند مستوى معين، كما قامت حكومة "شرودر" على تقليص بعض الضمانات، وزيادة مستوى المرونة في دولة الرفاه الألمانية، وأن هذا التحول باتجاه النموذج الأميركي هو سر النجاح الألماني. حتى إذا كان ذلك صحيحاً.. وحتى إذا أصبح الاقتصاد الألماني أميركياً بالكامل، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه سيؤدي على نحو أفضل، والدليل على ذلك أن الاقتصاد الأميركي ذاته يؤدي على نحو لا يمكن أبداً وصفه بالجيد. رداً على ما يذهب إليه"لين" أقول إن الاقتصاد الألماني كان: أولاً، قد بدأ انطلاقه قبل أن تنضم ألمانيا الشرقية - التي كان اقتصادها يئن تحت وطأة النظام الشيوعي إلى ألمانيا الغربية، ويستفيد اقتصاد ألمانيا الموحدة من العمالة الشرقية ذات الأجور الأقل - بوقت طويل. ثانياً، وهو الأكثر أهمية أن ذلك الانطلاق كان قد بدأ في الوقت نفسه تقريباً الذي بدأت الشركات المتعددة الجنسيات تنظر إلى نفسها- وتتصرف - على أنها شركات عالمية كبرى، كما بدأت - وتحديداً منذ أن انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية - تفتتح "مستودعات" كبيرة للعمالة الرخيصة. عند هذه النقطة بدأت المزايا النسبية للاقتصاد الألماني - مقارنة بالاقتصاد الأميركي - تلعب دورها لأن الشركات الأميركية بدأت تكلف عمالة أجنبية مقيمة في الخارج بتنفيذ الأعمال الخاصة، كما بدأت شركاتها، تفتتح فروعاً لها بالخارج (في الصين أساساً)، بمعدلات متسارعة للاستفادة بالعمالة الرخيصة، وتجنب الالتزامات العمالية من تأمينات، وضمانات، ومعاشات، وما إلى ذلك من التزامات تثقل كاهل ميزانية الشركات الأميركية. لم تسر ألمانيا وراء النموذج الأميركي في هذه الحالة، بل عملت على تفعيل ترتيبات مؤسسية جنبت الشركات المتعددة الجنسيات العاملة على أراضيها الحاجة إلى ذلك. صحيح أن المصانع الألمانية قد أبقت على أجور العمال عند مستويات منخفضة، إلا أن ذلك لم يمنع من أن يكون "متوسط" الأجور للعمال الألمان مرتفعاً عن نظيره في أميركا بنسبة 50 في المئة. ولتشجيع تلك المصانع والشركات على البقاء في ألمانيا، عملت السلطات هناك أيضاً على زيادة الأبحاث والدراسات الرامية لزيادة الكفاءة والإنتاجية على نحو مطرد. يبقى مع ذلك سؤال هو: ما سبب حديثي المستمر على النموذج الألماني طالما أنه بعيد كل البعد عن الأجندة الأميركية؟ إنني أفعل ذلك إلى حد كبير من أجل التأكيد على أنه في عصر العولمة غير المسبوقة، والحركية العالية لرأس المال، فإن الرأسمالية التشاركية التي تطبقها ألمانيا تجعل الاقتصاد بصفة عامة أكثر قوة وأقل تعرضاً لظاهرة التعهيد ونقل الأعمال فيما وراء البحار. واكتب ذلك للتدليل على مدى الاختلال الوظيفي، ومدى انعدام المساواة التي أصبح عليها اقتصادنا الذي يهيمن عليه نمط التمويل - وتجارة التجزئة والذي يقوم على وول ستريت(الأسواق المالية) وول مارت(الأسواق الاستهلاكية)، وكيف أنه من المهم جداً بالنسبة لاقتصاد أي دولة أن يحافظ على قطاع صناعي نشط إذا أراد التقدم. وأنا اكتب عن ألمانيا كذلك كي أثبت أن الدولة - أي دولة - ليست بحاجة إلى الدخول في منافسة مع الصين على الأسعار حتى تتمكن من تعزيز اقتصادها... وأكتب عن ألمانيا كي أوضح أن الدول المتقدمة ليس من الضرورة أن تصبح أقل حركية، وهو الوضع الذي آل إليه الاقتصاد الأميركي بعد إغلاق ما يقرب من 59 ألف مصنع في الولايات المتحدة خلال العقد الأخير، وبعد أن أصبح نموه معتمداً بشكل أساسي على الاستثمارات المالية والإنفاق الاستهلاكي البذخي. وإذا كان استخدام النموذج الألماني لإيجاد حلول لمشاكلنا وأزماتنا المستعصية غير مقنع فلست أعتقد أن هناك أي حال مقنع آخر لتلك المشكلات والأزمات، ضمن الحلول التي تطرحها كتالوجات السياسة الأميركية في الوقت الراهن. وفي النهاية أقول إنني أكتب عن ألمانيا لأنني أرى أن هناك حاجة للنظر خارج النموذج الرأسمالي الأميركي إذا أردنا إعادة الاقتصاد الأميركي إلى سابق عهده. وليس معنى ذلك أن ألمانيا تمتلك كافة الإجابات والحلول لأسئلتنا ومشكلاتنا - ولا حتى لأسئلتها ومشكلاتها- ولكن حتى إذا افترضنا أن ألمانيا لم توجد من الأساس، فإنني كنت سأقوم برسم تصور تقريبي لنموذج اقتصادي مقارب لنموذجها الاقتصادي، للترويج للأفكار التي اعتقد أنها يمكن أن تساعدنا. هذا هو السبب الذي يجعلني أكتب عن ألمانيا. هارولد ميرسون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محلل اقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"