لم أر الدوائر المعنية بصنع القرار أو القريبة من صناعته في واشنطن بمثل هذا التخبط الذي يبدو حالياً فيما يتعلق بالسياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط وتطوراتها الجارية. يحدث التخبط في بعض الأحيان، بل وفي كثير منها، لكنها قلما كان يحدث بسبب الجهل أو نقص المعلومات؛ فالخبراء وبنوك التفكير والمراكز المختصة وبيوت الاستشارة... كل ذلك يعمل ليل نهار فيما يتعلق بهذه المنطقة التي تعتبرها واشنطن واحدة من أهم أولوياتها الاستراتيجية. ويحدث التخبط في هذه الحالة بسبب تعدد الآراء والتوجهات التي تعكسها التقارير ذات الصلة، والتي تكون في كثير من الأحيان انعكاساً صادقاً لتعارض مصالح جماعات الضغط واللوبيات المختلفة، بدءاً من أهمها وهي قوى الضغط الصهيونية، إلى شركات صناعة الأسلحة وشركات الضغط المرتبطة بالاستثمارات المالية وسياسات الطاقة. هذا التخبط يحدث في واشنطن وفي مؤسسة الحكم الأميركية، حيث يعتقد الأميركيون في مستويات مختلفة أن تعدد الآراء يمثل ظاهرة صحية، بل هو الوسيلة المثلى للإلمام بالجوانب المختلفة لأية قضية، وبالتالي الوصول في شأنها إلى قرار رشيد من وجهة نظر المصلحة الأميركية العليا، حتى أن نظريات أميركية معروفة في آلية اتخاذ القرار ومنهجه تُعلي من شأن تعدد الآراء في هذا الخصوص. لكن التخبط الذي رأيته هذه المرة في أحاديثي مع بعض القريبين من صنع القرار الأميركي هو تخطب من نوع مختلف كليا، فهو يعكس حيرة وتشتتاً في الإدراك، خاصة فيما يتعلق بالتوجه السياسي. ويشترك في هذه الحيرة أشخاص من مستويات مختلفة واتجاهات متباينة أصلا، فالحيرة إذن مشتركة وعامة في اللحظة الأميركية الراهنة. إن الحيرة والتشتت هذه المرة لا يعكسان جهلاً لدى بعض دوائر اتخاذ القرار في واشنطن، أو تعدداً عقيماً في آراء بعض خبرائها، بل يعكسان حالة من الشعور بالمفاجأة ثم عدم وضوح الرؤية على أرض الواقع في منطقة الشرق الأوسط. ومن المؤكد أن واشنطن -شأنها شأن كثير من العواصم والدول والجماعات والمراقبين- فوجئت بما حدث من تغيير في كل من تونس ومصر، بل ولم تتوقع أن ينهار نظاما بن علي ومبارك بهذه السرعة الفائقة. في البداية وقفت واشنطن -كما فعلت باريس- إلى جانب بن علي، على أساس أنه مرادف للاستقرار السياسي في تونس، وأخذت بعض الوقت قبل أن تكتشف أن الرهان على ذلك الرجل ونظامه هو رهان خاسر حتماً. كذلك فوجئت دوائر القرار في واشنطن بالأحداث وتداعياتها في مصر، وحاولت تجنب أخطاء الرهان الخاسر التي ارتكبتها حيال بن علي، لكن كانت هناك ضغوط إسرائيلية قوية على الجانب الأميركي من أجل استمرار الوقوف إلى جانب مبارك. ثم وصل تشتت واشنطن في هذا الصدد أقصاه عندما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية علناً ودون أية دبلوماسية: "إن على مبارك أن يرحل الآن، وهذا يعني الآن وليس غداً". لكن في نفس الوقت تقريباً، كان مبعوث البيت الأبيض، السفير فرانك وايزنر، يلتقي مسؤولين في القاهرة، ثم يغادرها إلى أثينا ويعلن من هناك أن واشنطن لا ترغب في رحيل مبارك! حاولت الإدارة الأميركية تغطية هذا التعارض العلني والفاضح بقولها إن "وايزنر" -الذي كان منذ عدة سنوات سفيراً لها في القاهر ويرتبط بعدة صداقات- لا يعبر في هذا التصريح إلا عن رأيه الشخصي! لكن كيف يكون هذا والرجل مبعوث رسمي للرئيس أوباما نفسه؟ وتتابعت الأحداث لكي تزيد من حيرة واشنطن إزاء الحدث المصري، بدلاً من أن يساعدها الوقت الذي استغرقه تطور الحدث على الوصول إلى رؤية أكثر وضوحاً. وجاءت الثورة في ليبيا، ليس لدفع القذافي سريعاً نحو مصير مماثل لمصير بن علي أو مبارك، بل ليصبح هذا البلد النفطي ضحية لحرب أهلية مدمرة. وبعد ليبيا بوقت قصير جاءت "حرب أهلية" أخرى بين السلطة ومعارضيها في أقصى الجزيرة العربية، في اليمن، حيث توجد منذ عدة أعوام عناصر نشطة من تنظيم "القاعدة". وكأن كل ذلك لا يكفي، فقد اشتعلت الانتفاضة في كثير من شوارع ومدن سوريا بدءاً من درعا وليس انتهاءً بالبوكمال، وما لذلك الحدث من تأثير على الوضع في كل من لبنان والعراق وإيران في ظل احتمال ظهور أزمة لاجئين جديدة في هذه المنطقة التي تعج أصلا بحوالي 14 مليون لاجئ تدفقوا في مساربها خلال السنين والعقود الأخيرة. هذا طبعاً إلى جانب ما يعنيه الحدث السوري لإسرائيل بما لها من أهمية خاصة في صلب التفكير الاستراتيجي للسياسة الخارجية الأميركية. لذلك فالسؤال الآن هو: ما السبيل للخروج من هذه الحيرة؟!