في الشهر الماضي حث أوباما مبارك رئيس أهم دولة حليفة لأميركا في العالم العربي على الاستماع لمطالب شعبه والتنحي عن منصبه، كما قام بتكوين علاقة عملية مع الرئيس الصيني، وألقى خطابه المنتظر عن"حالة الاتحاد". وإذا قمنا بضم هذه الفعاليات المهمة معاً، فسوف نجد أنها تلقي ضوءاً على مدى تعقد أزمة القيادة العالمية بالنسبة للولايات المتحدة، وعلى الأسئلة الصعبة التي تواجهها في سبيل الاضطلاع بهذه القيادة من مثل: هل تتعاون مع الدول العظمى الأخرى كالصين أم تتنافس معها؟ وهل تتعاون مع بعض الحكام السلطويين أم تضغط عليهم؟ خلال العقود الثلاثة الماضية، وجد الرؤساء الأميركيون من الحزبين أن قدرتهم على التعامل مع تلك الأسئلة والمعضلات تتأثر لحد كبير بتغير موازين القوى في المنظومة الدولية. فخلال الزيارة الرسمية التي قام بها "هو جنتاو" إلى أميركا، كان من السهل على المرء أن يتخيل أن سياسات العالم، واقتصاداته قد اختزلت على هيئة لعبة تدور بين أميركا الديمقراطية والصين غير الديمقراطية. ولكن الواقع كان أعقد من ذلك بكثير. فعلى الرغم مما يقال عن أفول الولايات المتحدة الأميركية، فإنها تبقى، مع ذلك، أكبر قوة اقتصادية في العالم حيث يبلغ ناتجها القومي الإجمالي 14 تريليون دولار سنوياً.. ويصل نصيب الفرد فيها من الدخل القومي لإجمالي 41 ألف دولار، ويأتي بعدها دول الاتحاد الأوروبي التي يزيد الدخل القومي الإجمالي لمجموع دوله البالغ عددها 27 دولة، عن دخلنا القومي الإجمالي للولايات المتحدة بمقدار 2 تريليون دولار. وعلى الرغم من أن معظم الدول الأوروبية الشرقية، التي انضمت للاتحاد الأوروبي أفقر من باقي دوله الواقعة في غرب ووسط القارة، فإنها تنمو بشكل مستمر، وإن التحالف الغربي الذي يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يبقى مع ذلك في موقع الصدارة العالمية. وصعود الصين المذهل، والتطور الهائل الذي شهدته بنيتها التحتية، والارتفاع الكبير في مستويات المعيشة لشعبها قصة معروفة جبداً للجميع. في الوقت نفسه، نجد أن الديمقراطيات الناهضة منذ عام 2008 مثل البرازيل، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، وتركيا قد حققت قفزات كبيرة للأمام هي الأخرى. فنصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي في الصين يبلغ 6000 دولار سنويًا، أي ما يزيد قليلاً عن نصف نصيب الفرد من الدخل القومي في دول مثل المكسيك وتركيا، ولا يزيد عن سُبع نصيب الفرد الأميركي من الدخل القومي. وخلال العقد الأخير، حققت الهند إصلاحات دراماتيكية ، ولا تزال تحقق تقدماً كبيراً وترسخ أقدامها، وسط الاقتصادات الناهضة في العالم. في الوقت نفسه، يتواصل فشل الدول غير الديمقراطية ذات الاقتصادات المثقلة بالقيود، حيث تحقق ناتجاً اقتصادياً منخفضاً، وتعاني من نسبة تضخم مرتفعة، ونموا سكانياً كبيراً. وتشير كافة الاحتمالات، إلى أن ديمقراطيات الاقتصادات الناهضة، والاقتصادات الراسخة، هي التي ستصوغ شكل الاقتصاد والسياسة لفترة طويلة قادمة في القرن العشرين، وأن دول العالم العربي، ما لم تنجز إصلاحات ذات شأن فسوف تتأخر عن الركب. بعض هذا النمو يرجع ببساطة إلى العوامل الديموغرافية فالولايات المتحدة على سبيل المثال نمت ديموغرافياً منذ عام 1980، وحتى الآن بنسبة 36 في المئة، وهو ما يزيد عن نسبة النمو الديموغرافي لدول الاتحاد الأوروبي واليابان أربع مرات. وتشير الإحصاءات الرسمية أن النمو الديموغرافي الأميركي كان أسرع بنسبة 50 في المئة من مثيله في الصين، وأن معدل النمو الديموغرافي الصيني، لو استمر عند معدله الحالي الذي لا يزيد عن 0.7 فأنه سيشكل - حتما - قيداً على النمو الصيني في نهاية المطاف. وهناك دول كمصر على سبيل المثال، لديها سرعة في النمو الديموغرافي ـ2 في المـئة تقريبا ـ المصحوبة بنمو اقتصادي متعثر، وهذا مشكلة كبرى في توفير الوظائف لقوتها العاملة التي تزداد فيها نسبة الشباب بشكل مطرد. والتحدي الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة - ويواجه الدول الأخرى في كافة مناطق العالم، هو تحقيق التوازن بين الصادرات والواردات. فالاختلالات المتزايدة في الموازين التجارية، هي التي تؤدي إلى عدم استقرار الاقتصادات، وتقوض إمكانيات توفير فرص العمل. والنمو الاقتصادي له تأثير على المناخ فالانبعاثات الكربونية ارتفعت بنسبة تزيد عن 50 في المئة بسبب النمو الاقتصادي المتسارع، وخصوصاً في الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة، مع ارتفاع متزايد ومطرد في نسبة الانبعاثات في دول الاقتصادات الناهضة أيضاً. ومن ناحية ارتباط النمو الاقتصادي بالقوة العسكرية، لا زالت الولايات المتحدة هي القوة الأكبر في العالم، كما حلت الصين محل روسيا كثاني أكبر قوة، بيد أن المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة في هذا الصدد، هي أنها لن تتمكن من الحفاظ على معدلات إنفاقها العسكري الحالية، بسبب العجز المتنامي في ميزانيتها في الوقت الذي ستتمكن فيه الصين من زيادة هذا الإنفاق بسبب قدارتها الاقتصادية المتنامية. من كافة المعطيات والعوامل السابقة نخلص إلى أن الولايات المتحدة سوف تظل الدولة القائدة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في العالم، وأن هناك قوى جديدة تنهض بسرعة، ولكنها تواجه تعقيداتها الخاصة في المجالات الديموغرافية، والبيئية، ونظم الحكم. والسؤال الحقيقي هنا ليس هو ما إذا كانت الدول الناهضة ستستطيع اللحاق بالولايات المتحدة أم لا... فالحقيقة أنها تستطيع ذلك. ولكن ذلك السؤال سيكون هو: هل ستستطيع الولايات المتحدة مواصلة النمو بطريقة تحقق الاستفادة لنفسها ولغيرها. وهل ستستطيع تقديم يد المساعدة في صياغة نظام اقتصادي جديد يتجنب الصراعات، ويشجع على المزيد من الحريات؟ ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"