- لازلت أتذكر أحاديثي مع بعضهم صيف العام الماضي في القاهرة، أتذكر نقاشي المحتدم وأنا أجلس مع رجل أعمال مصري في مطعم يقع في الطابق السابع لأحد الفنادق القاهرية المشهورة، قلت له وأنا أتطلع للشارع ومن فيه ممن يروحون ويغدون وقد امتلأت وجوههم عبوساً وإحباطاً مع زيادة أسعار كل شيء يأكلونه ويشربونه... وهو قليل، قلت: ألا تخافون أنتم الأثرياء من ثورة الجياع وسخط لا يُبقي ولا يذر، يأتي من الذين يعبرون تحتنا أو الذين هناك في أحزمة العشوائيات والتهميش حول المدن؟ ألا تخشون أن تتحول ثورة الجياع إلى ثورة أخرى لها مسميات مختلفة؟ رد عليّ والسخرية تبدو على ملامحه: لقد انقصم ظهر هؤلاء من البحث عن رغيف العيش، وسيظلون كذلك إن لم تزد الانحناءات... لا خوف ولا وجل على الإطلاق! وبعد يومين كنت ضيفاً على مائدة صديق قديم آخر يسكن في ضاحية المهندسين؛ وبعد الغداء انضم إلى جلستنا ابنه الذي لا يتجاوز عمره العشرين عاماً، وبعد حوار سريع معه عن الطقس والدراسة وترتيب النادي الذي يشجعه وآخر الأفلام والمسلسلات التي شاهدها، بعد كل هذا سألته عن كيفية قضائه لعطلة الصيف، رد بأنه سيذهب إلى أميركا حيث سيحضر حلقة دراسية عنوانها "حقوق الإنسان في مصر" وأن هذه الندوة تكملة لعدة ندوات أخرى عقدت في أشهر ماضية تحت هذا المسمى ومسميات أخرى مثل "الغد المشرق" و"طاقات الشباب الواعدة"... إلخ، وسألته: أين عقدت هذه الندوات، وماذا يدور فيها ومن يحضرها؟ أجابني بأن الندوات تعقد مرة في أميركا ومرة في المغرب وعمّان وفي دولة خليجية، وأن عشرات بل مئات الشباب المصري يشارك فيها بالإضافة إلى شباب العالم العربي الآخرين الذين توجه لهم دعوات لحضور هذه المنتديات لمناقشة أوضاعهم الشبابية في بلدانهم، والغريب - كما يقول ابن صديقي- أن المشاركين يُعطون مبالغ نقدية مقابل حضور هذه المنتديات إلى جانب تذاكر السفر والإقامة المجانية! أما أغرب الفعاليات التي تدور في ردهات اجتماعات كهذه، والتي تُشرف عليها منظمات شبه حكومية أميركية وأوروبية بدليل الترتيبات الأولية التي تقوم بها سفارات الدول الأجنبية في العواصم العربية، أغرب الفعاليات هي ما يُلقنه المحُاضِرون للمشاركين عن أحداث افتراضية يمكن أن تحدث في مصر خصوصاً وفي غيرها من البلدان العربية الأخرى، حتى تبعث إشارة ساعة "كود" معينة يطلقها موقع إلكتروني معين يتجمع بعدها الشباب في أمكنة معينة ثم تتدحرج كرة الثلج الاحتجاجية، التي ترفع مطالب حياتية متواضعة ثم يرتفع السقف إلى أن يلامس رأس النظام ذاته، دور الشباب الذين يحضرون الدورة الدراسية تحت مسميات لا تبعث على الشك في البلدان العربية المختلفة، وهذا التجمهر الأولي يأتي بعده حسب الخطط الموضوعة دور أفواج أخرى لها أهداف أخرى. لم يقف هذا الشاب ولا أمثاله من الشباب على أسماء الأفواج الأخرى ولا انتماءاتهم ولا حتى أين يتلقون دروساً تشابه دروس حلقاتهم أو تختلف عنها؟! لم آخذ كلام ذلك الشاب على محمل الجد الكامل، وإن راودني إحساس بأن شيئاً ما يحضر لمصر مُستغلاً تردد الطبقة الحاكمة في مصر ومن تماهى معها من الطبقات الغنية التي هي رمز لمثيلاتها في بلدان عربية أخرى، تردد سياسي واقتصادي واجتماعي يبعد هذه النخب عن تلمس واقع بلدانها المليء بالإحباط متنوع الأشكال. وزادت من إحساسي الأخير ذاك الحملة الأميركية على الحكومة المصرية بعد تعاملها مع بعض الشخوص المصريين والمقربين للغرب وبعد نتائج الانتخابات الأخيرة هناك، إضافة إلى توافق هذه الحملة الغربية -وفي ذلك غرابة- مع حملة تأتي من جهات إقليمية معادية للغرب ضد مصر ودورها الاعتدالي المناهض للفوضى الخلاقة الغربية والفوضى الأخرى التي ترفع شعارات إسلامية. وقد تكاملت كل أساسيات هذه الصورة مع أجزاء أخرى لتجعل من مصر مثالاً حيّاً ملموساً لما أصبحت عليه الدولة العثمانية في أواخر سنوات السلطان عبدالحميد، حين كان آخر السلاطين العثمانيين الفعليين يواجه مصيره الذي حدده عجزه عن تلمس الواقع آنذاك وإلى تشتت خياراته، إضافة إلى المصير الذي صنعته نيران الثورات في كل أجزاء الدولة العثمانية مثل البلقان وبلاد الشام ومناطق أخرى. أما في الداخل العثماني نفسه في بلاد الأناضول وبالقرب من قصور سلاطين بن عثمان في الاستانة نفسها فقد أُطلقت إحدى الرصاصات القاتلة على الجسد العثماني العليل، وكانت الرصاصة عبارة عن جمعيات سرية لا تبحث فقط في مصير الدولة العثمانية، بل شرعت بالفعل في تأسيس تاريخ جديد لهذه الدولة بصورة مختلفة جذريّاً، بداية من نوع الملابس وحتى اللغة التي يرفع عبرها الآذان. أما الرصاصة الأخرى القاتلة فليست سوى التدخل السافر للسفارات الأجنبية في كل شيء بالاستانة... حتى طعام وحرس السلطان وصدره الأعظم، ناهيك عن التشريعات والأنظمة وحقوق المواطنة للشعوب المختلفة المكونة للدولة العثمانية مع بعض التعديلات في الأسماء والملابسات والأشخاص والظروف المكانية والزمانية. لقد كانت مصر يوم 25 يناير 2011 مشابهة للسنة الأخيرة لحكم السلطان عبدالحميد. أعيدوا أعزائي الكرام قراءة رسائل السفارات الروسية والبريطانية والفرنسية والنمساوية الموجهة للسلطان عبدالحميد وكبير وزارته وأمنائه، وتذكروا ما قاله ويقوله الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته إلى من يهمه الأمر في مصر منذ ليل 25 يناير 2011 وحتى كتابة هذه السطور، لتعرفوا بعد هذا وجه الشبه الكبير بين الحدثين التاريخيين وصُناعهما ومسبباتهما ونتائجهما... مع بعض الفروق التي توجبها العقود الزمانية هنا وهناك. إن ما يفعل في مصر هذه الأيام هو صناعة مصرية داخلية، وخارجية، أنتجت ما نشاهده الآن من خلال الفضائيات، لقد كانت التجربة التونسية "بروفة" للجائزة الكبرى ألا وهي مصر قلب العالم العربي وإحدى رئتي العالم الإسلامي، والبلد الذي لا يمكن تصور الحرب ضد الغزاة بدونه ولا سلام كذلك بدونه، صاحبة الموقع المتميز والخطير، والتاريخ الذي لا يُبارى. لقد كانت لانهيار الدولة العثمانية -الحتمي- نتائج كثيرة وضخمة في أوروبا والعالمين العربي والإسلامي، وليس غريباً أن تكون لنتائج ما يحدث الآن في القاهرة وجميع المدن والمحافظات المصرية نفس توابع الحدث الأكبر السابق إن لم يكن أضخم، ويبقى أملنا أن يكون 25 يناير 2011 بداية لتصحيح هنات التاريخ وليس إدخال تاريخ وحاضر المنطقة في غرفة الإنعاش الحضاري الممتلئة بالفوضى والأطباء غير المهرة والتجهيزات المنقوصة.