في السادس عشر من يناير الماضي، نشرت صحيفة "صانداي تايمز" قصة غريبة سببت لي الضيق والانزعاج. في مساء ذلك اليوم، كان هناك فيلم عنوانه "خطاب الملك" تشير كافة التوقعات إلى حصوله على جائزة في مسابقة "جولدن جلوبز" في هوليوود. الفيلم من بطولة الممثلين البريطاني "كولين فيرث" والبريطانية "هيلينا بونهام كارتر" اللذين اعتبرهما من عمالقة التمثيل. وهو يدور حول الملك جورج السادس، ومحاولاته الدائبة للتغلب على اللعثمة الشديدة التي كان يعاني منها. والخبر المنشور في "صانداي تايمز" حول الموضوع كان يتعلق باتهام تضمنته رسالة إلكترونية غير موقعة انتشرت في أروقة هوليوود، مفادها أن الملك جورج السادس كان متعاطفاً مع النازيين. وبدا الأمر كما لو أن تلك الرسالة الإلكترونية كان مقصوداً به التأثير سلباً على فرص فوز الفيلم بجائزة، كان واضحاً أنه يستحقها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث تم إرسال الرسالة المذكورة إلى أعضاء لجنة التحكيم في أكاديمية فنون وعلوم السينما من قبل شخص يدعي أنه عضو في تلك الأكاديمية، زعم فيها أن الفيلم يعد " تجميلاً للتاريخ"، وقال إنه قد وجه نسخاً من الرسالة المذكورة للنقاد السينمائيين. ومما جاء في مقالة "صنداي تايمز"، أن "السبب الذي يدعونا للقول إن محاولة تشويه صورة الملك جورج السادس قد تؤدي إلى التأثير سلباً على فرص الفيلم بالفوز بجائزة في المهرجان المذكور، هو أن عدداً كبيراً من أعضاء الأكاديمية ينحدرون من عائلات يهودية هاجرت لأميركا فراراً من الاضطهاد النازي في أوروبا المحتلة، ومنهم كثيرون ممن فقدوا أقارب لهم في تلك المذابح". وقد احتوت هذه الرسالة الإلكترونية على مقالة من مجلة واسم كاتب هذه المقالة، وهو يهودي، حيث كتب:" أشعر بأن مقتضيات الضمير تتطلب مني أن أذكر أنه، وإن كان الفيلم -إلى حد كبير- يمر مرور الكرام على النقطة الخاصة بتعاطف الملك (المعقود اللسان) مع النازيين، والعلاقة التي ربطته بطبيب أسترالي المولد متخصص في علاج عيوب النطق والكلام، فإن الملك، وحينما كان الأمر يتعلق بعرقلة عملية هروب اليهود من ألمانيا النازية، كان يتحول إلى شخص قادر على التواصل بفصاحة تامة. وقد ادعت الرسالة الإلكترونية أن الملك جورج قد أمر سكرتيره الشخصي عام 1939 بأن يكتب رسالة للورد هاليفاكس، وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت، يسأل فيها عن اللاجئين اليهود القادمين من دول عدة، والذين كانوا يدخلون فلسطين بشكل غير قانوني. وكان الملك يريد أن يعرف ماهية الإجراءات التي يمكن اتخاذها في البلدان الأصلية لهؤلاء اللاجئين لمنعهم من المغادرة. واقترح الملك في هذه الرسالة أن تطلب وزارة الخارجية البريطانية من السفير البريطاني في برلين تشجيع الحكومة الألمانية على" الحد من الهجرة غير الشرعية لليهود". لسنا نعرف حتى الآن نوعية الاهتمام الذي أبداه أعضاء لجنة تحكيم أكاديمية فنون السينما تجاه تلك الرسالة الإلكترونية المقذعة، لكن الشيء الذي نحن متأكدون منه هو أنه ليست هناك في نظرنا لجنة تصويت محترمة يمكن أن تبدي اهتماماً بمثل هذه الرسالة. والشيء الذي بعث في نفوسنا السرور أن الممثل كولين فيرث نال عن جدارة واستحقاق جائزة أحسن ممثل عن أدائه لدور الملك جورج، وأن النقاد يرشحونه لنيل جائزة الأوسكار في شهر فبراير الحالي. لا شك أن والدي الذي كان ضابطاً نظامياً خاض غمار الحرب العالمية الثانية خلال السنوات 1939 -1945، وشارك في المعارك التي دارت على شاطئ دانكرك، وترقى حتى وصل منصب قائد كتيبة... وكذلك والدتي التي عاشت في جنوب إنجلترا، كانا سيصابان بصدمة شديدة عندما يقرآن المزاعم التي تتهم ملكهم الذي كانا يجلانه كثيراً، بأنه كان متعاطفاً مع النازية. فقيادته كانت محلاً للثناء والإعجاب الكبير ليس فقط في بريطانيا وإنما أيضاً في مختلف أرجاء الإمبراطورية البريطانية والتي كان جيشها يتضمن لواءً مكوناً من يهود فلسطين. وكان قد أعلن في فلسطين عام 1939 أن العرب واليهود سوف يتقاسمان السلطة في الدولة الفلسطينية التي ستقام في المستقبل بمجرد استرداد النظام العام، وأنه سيتم السماح على مدى خمسة أعوام التالية، بدءاً من أبريل من نفس ذلك العام، بهجرة 75 ألف مهاجر يهودي سنوياً إلى فلسطين. وبعد انتهاء هذه الفترة لن تكون هناك هجرة إلا بموافقة العرب! وجاء في ذلك البيان أيضاً أن المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يتسنى إبعادهم بسبب وضعهم كلاجئين، سوف يتم خصم أعدادهم من حصة المهاجرين اليهود السنوية. وفي ذلك الوقت أيضاً جرى تكليف المندوب السامي البريطاني بتنظيم عمليات بيع الأراضي في فلسطين بحيث لا يتم انتزاع ملكيات المزارعين الفلسطينيين. ومن خلال هذه الرسالة والتكليف يمكننا الخروج بنتيجة، وهي أن الملك جورج كان يفكر بنفس الأسس التي كان يفكر بها معظم أعضاء المؤسسة السياسية والدبلوماسية البريطانية في ذلك العام والأعوام التي تلته. فبحلول ذلك العام كان قد تم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كما دعا إلى ذلك وعد بلفور، الذي قدمته بريطانيا لليهود أثناء فترة حرجة من الحرب العالمية الأولى. لكن هذا الإعلان الكارثي من وجهة نظري تضمن كذلك فقرة تقول: "عند تأسيس فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي، لا يجب بأي حال من الأحوال فعل شيء قد يفتئت على الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين". في ذلك الوقت تحول إبقاء الهجرة اليهودية إلى فلسطين تحت السيطرة إلى موضوع أساسي، وكان من اللازم في ضوء الظروف السائدة اللجوء إلى تجربة أساليب متنوعة، منها قيام البحرية الملكية البريطانية بمنع سفن مكتظة بالمهاجرين من الوصول إلى المياه الفلسطينية كان لابد أن يصلوا إليها مهما كلفهم الأمر، وذلك بعد ارتفاع المد المعادي للسامية في أوروبا، وتفاقم السلوك الوحشي للحزب النازي في ألمانيا اللذين أديا إلى زيادة هائلة في الهجرة اليهودية. وفي عام 1947 أصبح الملك جورج إمبراطور الهند، رئيساً للكومنولث المؤسس حديثاً، والذي كان من المتوقع أن تصبح فلسطين عضواً فيه، لكن ذلك لم يحدث حتى وافاه الأجل المحتوم عام 1952. ومن ضمن المآثر المشهودة التي تحسب للملك جورج إصراره على إبقاء عائلته في لندن تحت نيران القصف الجوي النازي. لكن يبدو أنه لو كان الملك جورج لا يزال على قيد الحياة ، لأصابه الرعب لما آلت إليه الأمور بعد ذلك في فلسطين عندما غسلت بريطانيا يدها من الموضوع في مجلس الأمن، ودخل العرب واليهود في صراع لا يزال قائماً حتى اليوم.