يمكن القول إن الحلم الأميركي -الذي كثيراً ما نظر إليه على أنه أفضل أحلام البشرية كافةً- قد دخل مرحلة جديدة من مراحل تاريخه. فها هي أميركا المنزلقة باطراد نحو هوة الركود والتباطؤ الاقتصاديين. ولا تتعلق المعضلة هنا بالركود الاقتصادي وحده، وليتها كانت كذلك بالفعل. فالعقد الأول من الألفية الجديدة الذي اختتم للتو، كان العقد الذي شهد انخفاضاً ملحوظاً في متوسط دخل عامة الأميركيين. وبالمقارنة كان متوسط الدخل يرتفع بمعدل 4 آلاف دولار للعقد الواحد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. أما في عام 2009، والذي توفرت لنا فيه أكثر البيانات حداثة، فقد انخفض متوسط دخل عامة الأميركيين بنحو 49,777 ألف دولار، مع العلم أن ذلك العام كان عام ركود اقتصادي بالطبع. وفيما لو عدنا إلى عام 2007 الذي بلغ فيه متوسط دخل الأفراد ذروة ارتفاعه خلال العقد الأخير، فسوف نلاحظ أن متوسط دخل العائلات الأميركية السنوي لا يزيد على 50,233 ألف دولار، أي أنه كان أقل بنحو 300 مرة عما كان عليه متوسط دخل العائلات في عام 2000. وإلى حين انفجار فقاعتي القطاعين العقاري والمالي، كنا غارقين في وهم تحقيق الرخاء والازدهار الاقتصاديين عبر الائتمانات وقوة الاستهلاك المحلي. لكننا نقف الآن في منطقة تضاريسية وعرة تشير فيها كل المؤشرات إلى اتجاه تعافينا الاقتصادي في المدى البعيد نحو الهاوية. فقطاعنا الخاص لم يعد قادراً على خلق الوظائف الجديدة بمعدل يتناسب وارتفاع الكثافة السكانية. وبسبب شدة انخفاض معدل خلق الوظائف الجديدة، فإنه ليس متوقعاً لهذه الوظائف أن تحدث أي أثر يذكر على خفض معدلات البطالة المرتفعة. كما يلاحظ انخفاض معدل الأيادي المدنية العاملة خلال العقد الماضي إلى حوالي 58.2 في المئة، وهو أدنى معدل يسجله انخفاض العمالة المدنية منذ بدايات عقد الثمانينيات الماضي، حيث انضمت فئة قليلة جداً من النساء إلى القوة العاملة في السوق. كما يلاحظ أن الأعراض الاجتماعية التي طالما ارتبطت بفئات فقراء المدن -مثل العائلات التي يتولى مسؤوليتها أحد الأبوين المطلقين، وارتفاع معدلات الإنجاب خارج نطاق الزواج، وتفشي تعاطي الكحول والمخدرات- جميعها أعراض تتفشى بسرعة الآن في أوساط أفراد الطبقة العاملة البيضاء التي تقطن الريف والمناطق ما بعد الصناعية النائية جداً عن كبريات المدن. وفي الوقت نفسه تنحدر الطبقة الوسطى إلى الحضيض الاجتماعي. وفي هذا الصدد، لاحظ "ريتش لاوري" محرر مجلة "ناشيونال ريفيو" المحافظة أنه ونتيجة لانخفاض معدلات الدخل والتوظيف بين الأميركيين الذين أكملوا دراستهم الثانوية دون أن يتخرجوا في أي من الكليات أو الجامعات، فقد ارتفعت في أوساطهم معدلات الإنجاب خارج الزواج بنسبة 44 في المئة، لتقترب كثيراً من نسبة الظاهرة نفسها بين الأميركيين الذين لم يكملوا تعليمهم الثانوي (54 في المئة). وبالمقارنة فإن نسبة الإنجاب خارج الزواج لا تزيد على 6 في المئة فحسب بين الأميركيين الذين أكملوا تعليمهم الجامعي. ويذكر أن العالم الاجتماعي الشهير "ويليام جوليوس" قد دفع بحجج علمية تقول إن مفتاح تفسير حالة البؤس التي تعيشها الفئات الفقيرة من الأفارقة الأميركيين، هو النقص الحاد الذي حدث بين الذكور الذين يمكن الزواج منهم، نتيجة للانخفاض الحاد في معدلات العمالة في المدن والمراكز الحضرية. ويمكن قول الشيء نفسه الآن عن أفراد الطبقة العاملة البيضاء في المناطق السكنية التي ربما لا تبدو مطابقة لـ"جيتو" مدينتي كليفلاند وديترويت، لكنها أحياء ومناطق يصعب العثور فيها على أي أثر لنشاط اقتصادي منتج. ويقيناً فإن في هذا الواقع الجديد ما يضيء الحوار العام الدائر بشأن الكيفية التي يمكن أن تستعيد بها أميركا تعافيها من موجة الركود الاقتصادي العالية هذه. والذين يؤمنون بفكرة دائرية موجات الركود الاقتصادي، يحاججون بالقول إن من شأن إيجاد الوظائف ورفع معدلات الإنفاق العام أن يجلب التعافي الاقتصادي المنشود. أما الذين يؤمنون بالطابع البنيوي الهيكلي لموجات الركود، فيرون أنه علينا الانتظار إلى أن ترتفع مهارات العمالة الأميركية إلى مستويات تمكنها من الدخول في مجالات عمل وإنتاج جديدة. غير أن هناك طريقاً ثالثاً يمكن النظر فيه إلى طبيعة موجات الركود الاقتصادي هذه. والمقصود بهذا أن لهذه الموجات سمة مؤسسية، بمعنى أن تكرار موجات الركود يحدث نتيجة للقرارات التي تصدرها كبريات الشركات والبنوك التي تهدف إلى وقف الاستثمارات القادرة على إنشاء الوظائف. ولتوضيح هذه الفكرة، فإن شركاتنا الكبرى متعددة القوميات لا تزال تواصل إنتاجها واستثماراتها. بيد أنها لا تفعل ذلك داخل أميركا. وقد لاحظت "يو إس كاونسل فاونديشن"، وكذلك مؤسسة "بيزنيس راوند تيبل"، أن نصيب أرباح الشركات الأميركية متعددة القوميات، والذي تجنيه فروعها الخارجية، قد حقق ارتفاعاً من نسبة 17 في المئة في عام 1977، إلى نسبة 27 في المئة في عام 1994، ثم إلى نسبة 48.6 في المئة في عام 2006. ومع ارتفاع عائدات هذه الشركات في الخارج، فقد انخفض في المقابل اعتمادها على المستهلكين الأميركيين. وبالنتيجة، فقد اختفى ذلك التوازن بين الإنتاج والاستهلاك المحليين، الذي جعل منه هنري فورد مبدأً للرأسمالية الأميركية منذ عام 1913، عندما رفع أجور عامليه إلى معدل غير مسبوق هو 5 دولارات يومياً. وطالما أن شركاتنا متعددة القوميات تواصل جني أرباح طائلة من إنتاجها وبيعها للسلع خارج حدود بلادنا، فإنها لا تتضرر بتاتاً من خفض عمالتها الأميركية وخفض أجور من يبقون من موظفيها في وظائفهم في ذات الوقت. وهذا ما يجب التصدي له في معالجة أزماتنا الاقتصادية باعتبارها أزمات تصنعها القرارات المؤسسية قبل أي شيء آخر. ولن تحل هذه المعضلة إلا بتمثيل نقابات العاملين والمهنيين في مجالس إدارة الشركات. ذلك أن المعضلات المؤسسية، تتطلب مواجهتها بحلول مؤسسية بالضرورة. هارولد ميرسون محلل اقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"