بعد سنوات من ضعف الأداء الاقتصادي والهزائم الانتخابية، بدأت الليبرالية تبحث عن وسائل جديدة تمكنها من تفسير أسباب عجزها، ولكن دون أن يعني ذلك مساءلة عوامل الخلل الجوهري في الليبرالية نفسها أو حتى مجرد الاعتراف بوجودها. وبدا للبعض أن أنسب الوسائل وأقربها إلقاء اللائمة على أوباما، بدعوى أنه لم يكن ليبراليّاً بما يكفي. ومن هؤلاء قال "روبرت كوتنر" في مقال له نشر في "هفنجتون بوست": "لا أستطيع أن أذكر رئيساً أميركيّاً واحداً أثار كل هذا الإلهام والزخم السياسي أثناء حملة سباقه الانتخابي، ثم تبين أنه عاجز كل هذا العجز السياسي إثر تولي منصبه الرئاسي، مثل ما فعل باراك أوباما". والواضح أن الأمر هنا يتعلق بتيار أيديولوجي من الليبراليين قرر التبرؤ من قائد ملهم طالما حظي عنده بالكثير من التقدير والإعجاب والاحترام إلى وقت قريب سابق لمراسم التنصيب الرئاسي، سعياً وراء التخلص من العبء السياسي الذي أصبح يمثله هذا القائد بسبب المشاكل الكبيرة التي تعانيها إدارته. ولكنّ هناك تياراً آخر وسط "الديمقراطيين" والليبراليين، عجز عن هز قناعته والتشكيك في إعجابه بأوباما. ويرى هؤلاء أنه إذا ما فشل رئيس بكل هذا القدر من الكفاءة والرؤية الثاقبة، فلا شك أن له خصوماً أشراراً يتربصون به ويعتزمون إفشال إدارته بكل السبل المشروعة وغير المشروعة. وحسب هذا المنطق، فإن المعضلة ليست أوباما بحد ذاته، وإنما تكمن في المؤامرة، أو لنقل "نظرية المؤامرة"، المحكمة حوله. وعليه فقد حذر آخر هو "مات يجليسياس" البيت الأبيض من تخريب اقتصادي متعمد يخطط له "الجمهوريون". بل إن هناك من حذر أيضاً من احتمال وقوع هجمات على شبكة الكهرباء القومية يتم تنفيذها بتمويل أجنبي. هذا ويرى المحلل السياسي الاقتصادي بول كروجمان أن "الجمهوريين" يريدون للاقتصاد الأميركي أن يبقى ضعيفاً في ظل إدارة أوباما الحالية. وفي الاتجاه نفسه كتب "ستيف بن" موضحاً: "إننا نتحدث عن حزب سياسي رئيسي يتعمّد إضعاف قوة بلادنا علناً ودون أدنى حياء أو اعتذار لأحد، مدفوعاً إلى ذلك بدافع وحيد هو منع خصومه الديمقراطيين من تحقيق أي مكاسب سياسية انتخابية لهم في عام 2012". وعلينا الآن أن نتساءل عن مدى توفر الأدلة المؤيدة لهذه الاتهامات الموجهة إلى "الجمهوريين"، بسبب انتقاداتهم العنيفة لخطة الإنقاذ الاقتصادي التي تبنتها إدارة أوباما، وكذلك انتقادهم لسياسات زيادة الإنفاق الحكومي في ظل الإدارة نفسها -بما في ذلك بالطبع خطة إصلاح نظام الرعاية الصحية. من الطبيعي أن يميل المرء للاعتقاد بضبابية المستقبل القريب لاقتصادنا القومي الأميركي، خاصةً مع ارتفاع عجز الميزانية الفيدرالية بحوالي تريليون دولار إضافي خلال العام الحالي، وتراجع احتمالات زيادة المعدلات الضريبية السارية حاليّاً، إضافة إلى التعقيدات الكبيرة المحيطة بتطبيق قانون إصلاح الرعاية الصحية. كما أن من الطبيعي أن يعتقد المرء بوجود جانبين لهذا الحوار العام بشأن السياسات الاقتصادية. وهذا هو ما يحاول نفيه دعاة نظرية التخريب الاقتصادي المتعمد. وبحكم موقفهم المسبق والمنحاز لصالح السياسات الاقتصادية التي تتبناها إداراتهم، فليس أمامهم سوى التمسك بأن هذه السياسات من الصواب والبديهية إلى حد يدمغ سلفاً أي انتقاد لها بالسلوك التخريبي لا أكثر. وبالنظر إلى سجل سياسات الاقتصادات الليبرالية القريب، فإن ما بدا دوماً لليبراليين مطلق الصحة وبديهيّاً جدّاً، أصبح مشكوكاً فيه من قبل الكثيرين اليوم. وتتطلب الظروف الموضوعية التي يمر بها اقتصادنا القومي، التفكير في بدائل أخرى لتلك السياسات الليبرالية. وهذا ما دفع "الجمهوريين" والمحافظين إلى الدفع ببدائلهم المتمثلة في: فرض القيود المالية، وخفض الإنفاق الحكومي، وخفض المعدلات الضريبية المفروضة.. وغيرها، مع العلم أنهم ظلوا يتمسكون بهذه المبادئ الموجهة لحركتهم منذ نحو 30 عاماً. ويصعب الآن تقدير مدى شعور وردة فعل المشرعين "الجمهوريين" المنتخبين للتو إزاء تهمة "التخريب الاقتصادي المتعمد" الموجهة إليهم، علماً بأن أوباما نفسه كان على وشك إثارتها في وجه خصومه "الجمهوريين". ففي أحد الاجتماعات العامة التي خطب فيها أوباما قبيل موعد التصويت في الانتخابات النصفية الأخيرة بمدينة "راسين" في ويسكونسن قال للحاضرين ما معناه: "قبل مراسم تنصيبي الرئاسي، هناك من استنتج من بين القادة الجمهوريين أنه إذا ما فشل أوباما، فإن ذلك سيكون نصراً لنا". وطبيعي أن يثير هذا التعليق غضب المرشحين التشريعيين "الجمهوريين" في مرحلة ما قبل الانتخابات النصفية، لما رأوا فيه من هجوم مباشر على دوافعهم الانتخابية. فهل يمكن لهؤلاء المرشحين "الجمهوريين" أن يتمنوا ارتفاع معدلات البطالة بين سكان دوائرهم الانتخابية مثلاً، لأن في ذلك ما يحقق لحزبهم مكسباً سياسيّاً انتخابيّاً على حساب "الديمقراطيين"؟ وبسبب مثل هذه الاتهامات الموجهة من الليبراليين إلى خصومهم "الجمهوريين" - وبخاصة تلك التي سبقت وصاحبت حملة الانتخابات النصفية الأخيرة - فقد تبخر أي أمل ممكن لتحسين مستوى التعاون الثنائي الحزبي على حل كبريات المشاكل والتحديات التي تواجهها أميركا اليوم. كما يجب القول أيضاً إن هذه الاتهامات تمثل سلوكاً سياسيّاً على درجة كبيرة من السوء والعيب. فهي تشير إلى حركة فاقدة لارتباطها الفعلي الحي بالواقع السياسي. وكما نعلم من تجارب التاريخ، فكلما تعثرت أيديولوجية ما أو فشلت، لجأ معتنقوها إلى وسيلة ما من وسائل التعويض. وقد تكون هذه الوسيلة التعويضية الكحول والمخدرات أحياناً، وربما تكون "نظرية المؤامرة" في بعض الأحيان. وهذه ما أخشى أن يلجأ إليها بعض الليبراليين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس"