لا شك أن مفهوم السياحة، شأنه شأن باقي المفاهيم، يتغير بتغير الزمان والمكان وتغير الإنسان ذاته. فبالأمس القريب، وقبل زمن لا يتجاوز العقدين، كان السياح من مختلف بقاع الأرض يركزون على الاستمتاع بما أبدعته عقول البشرية من فن وتراث وعمران وحضارات خلدها تاريخ الأمم والشعوب مثل التراث الفرعوني، والتراث الإيطالي، والتراث الصيني، والتراث الهندي، والتراث الفرنساوي، والتراث الإسلامي المنتشر في مختلف بقاع الأرض مثل تركيا وسوريا والعراق وأسبانيا، وغيرها من أنواع التراث والحضارات القديمة. فكان السائح بالفعل يجد متعةً في النظر إلى تلك الحضارات والتفكر والتأمل والتدبر في ذلك التراث، والذي يعكس، بلا شك، عظمة تلك الأمم والشعوب. وبناءً عليه فالسائح يشبع حاجةً اقتصاديةً معنويةً في ذاته ويحقق هدفه الذي يسعى إليه. إضافةً إلى ذلك فقد كانت المناظر الطبيعية الخلابة مثل السهول والبراري الخضراء، والأنهار، والينابيع، والشلالات، والجبال، والبحار، والطقس اللطيف من الأهداف والمقاصد التي يقصدها السائحون، حيث يجدون فيها إشباعا حقيقياً لحاجاتهم المعنوية. أي أنهم يجدون فيها سلوتهم وترويحهم وبعدهم عن هموم الحياة الروتينية المملة. فكان للسياحة مفهوم خاص ينبع من حاجة السائح وأهدافه وطلبه. وبناءً عليه صنفت دول العالم إلى دول سياحية وأخرى غير سياحية، ولا مجال للمنافسة بينهما. وكان تأثير قطاع السياحة في القطاعات الاقتصادية الأخرى محدوداً للغاية.
أما اليوم ومع التطور التكنولوجي والانفتاح الذي يشهده العالم، فقد تغير مفهوم السياحة تغيراً كبيراً. حيث احتل التراث القديم والمتاحف أهمية ثانوية في نظر أغلبية الأجيال الجديدة. فلم يعد التراث والتاريخ القديم والمتاحف والحضارات، رغم ارتباط أغلبيتها بالأديان، تشكل أولوية بالنسبة لهذه الأجيال الجديدة. ولقد تم بالفعل إعطاء الأولويات لأهداف ومقاصد أخرى. ومن أهم تلك الأهداف والمقاصد التكنولوجيا المعاصرة والإبداع الصناعي، ومن أهمها وسائل الاتصالات والمواصلات والفضاء الخارجي، وقطاع الرياضة بمختلف فنونه وفروعه، والتسوق، والألعاب والمرح الذي يناسب كل الأعمار وكل الميزانيات الأسرية، فضلاً عن حرص السائحين على الخدمات الفندقية الممتازة. فأصبح الجيل الجديد يشبع حاجاته الاقتصادية السياحية بأنماط مختلفة. لا شك أن ذلك لا يعني زوال اهتمام الأجيال الجديدة بالتراث والحضارات القديمة، والمناظر الخلابة، وإنما يعني اختلاف وتباين ترتيب الأولويات والأهداف والمقاصد السياحية من جيل إلى جيل على المستوى العالمي. بيد أن ترتيب الأولويات والأهداف قد يتباين ويختلف اختلافاً طفيفاً أيضاً من دولة إلى أخرى. ولا شك أن لتغير كافة أنماط الاستهلاك لدى الأجيال الجديدة تأثيره البالغ على الأولويات التي يعطيها هذا الجيل لأهدافه وحاجاته السياحية أيضاً.
ومن هذا المنطلق لجأت الدول إلى إعادة دراسة قطاع السياحة من فترة إلى أخرى وتقويمه والوقوف على ما يطرأ على حاجات السائحين من مستجدات ومتغيرات، وما يطرأ على أنماط تلك الحاجات وأولويات ترتيبها، وإعادة ترتيبها من مستجدات أيضاً. وبما أن حاجات الإنسان متنامية ومتجددة وغير محدودة، وأن أنماط استهلاكه متغيرة بسرعة كبيرة، وأن ترتيب أولويات أهدافه ومقاصده أصبحت متغيرة بسرعة عاليةٍ هي الأخرى، فإن قطاع السياحة يصبح من القطاعات التي هي بحاجة ماسة إلى مرونة عالية في الإنتاج، وجودة عالية في الأداء. فلم يعد في عالم اليوم ينفع تصنيف الدول تصنيفاً تقليدياً إلى دول سياحية وأخرى ليست سياحية. بل إن هناك دولاً لم تكن، قبل عشر سنوات، تصنف كدول سياحية أصبحت اليوم تصنف كدول سياحية. فإذا ما وصلت نسبة مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما إلى 5% فأكثر، فإن ذلك البلد بلا شك يصبح بلداً سياحياً.
والحقيقة أن قطاع السياحة يمتاز بعدة سمات إيجابية تميزه عن غيره من القطاعات الاقتصادية وتمنحه أهمية بالغة، ومن أهم تلك السمات الآتي:
1- يعتبر قطاع السياحة من القطاعات الجالبة للعملة الصعبة بصورة مميزة. فهو يعتبر مصدراً مهماً من مصادر جلب العملة الصعبة للبلد المضيف للسائحين، حيث إن الأموال التي يجلبها السائحون معهم وينفقونها هي مصدر مهم من مصادر الدخل القومي الذي لم يتم إنتاجه نتيجة للدوران المحلي لرأس المال، وإنما أتى إلى الدولة نظير سلع وخدمات أنتجتها الدولة المضيفة للسائحين وسوقتها لهم. فهي تشبه إلى حدٍ كبير السلع والخدمات المصدرة إلى العالم الخارجي.
2- يعتبر قطاع السياحة من القطاعات (ذات الدفع الأمامي) و(ذات الدفع الخلفي). فهو يرتبط بكافة القطاعات الاقتصادية ويساعد على نموها وتطورها جميعاً دون استثناء. فمن حيث كونه قطاعاً ذا دفع أمامي، يقصد به أنه قطاع يدفع كافة القطاعات الاقتصادية التي تلبي حاجات السائحين ورغباتهم وطلباتهم أثناء وبعد مجيئهم إلى الدولة المضيفة بشكل مباشر، مثل شركات السفر والسياحة وشركات الطيران والشحن والنقل