في مثل هذا الصيف قبل خمسين عاماً، وعندما انشغل الأميركيون كعادتهم بالانتخابات الرئاسية المحتدمة حملتها بين جون كيندي وريتشارد نيكسون كان دوايت إيزنهاور يستعد لمغادرة البيت الأبيض متأملًا السنوات التي قضاها رئيساً للولايات المتحدة، ففيما كان يتهيأ للانسحاب من الحياة العامة وترك السلطة كان إيزنهاور يستعرض الأفكار الأساسية والخطوط العريضة التي سيتضمنها خطابه الوداعي للأميركيين، وهو الخطاب الذي أصبح مشهوراً اليوم لما تنبأ فيه من مخاطر المجمع العسكري الصناعي، وتأثيره على القرار السياسي للرؤساء الأميركيين. واللافت أنه في الوقت الذي حذر فيه من هذا الخطر كان يخطط بالتزامن مع ذلك للإطاحة بالحكومة الكوبية، لكن المقام لم يطل بإيزنهاور في البيت الأبيض، ليمكنه من تنفيذ الخطة التي أشرف عليها فريقه الرئاسي، بل أورثه إلى خلفه الرئيس جون كيندي، الذي سمح له بسذاجة وانعدام بصيرة بالاستمرار ودخول حيز التنفيذ، مع التداعيات الخطيرة التي نعرفها جميعاً بعد اندلاع الأزمة المترتبة على التدخل الأميركي في منطقة "خليج الخنازير"، التي أخذت الأزمة اسمها، وكادت تحدث كارثة على الصعيد الدولي في أوج الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، ومع أن كيندي تحمل لوحده المحاولة الفاشلة، التي رعتها وكالة الاستخبارات الأميركية بمساعدة الكوبيين المقيمين في أميركا على غزو كوبا، إلا أن سلفه يستحق نصيبه من اللوم للدور الذي لعبه في إذكاء فتيل الأزمة، فمن دون إيزنهاور ما كانت لتنشأ المشكلة أصلاً. فكيف يمكن لرجل دولة مخضرم مثل إيزنهاور- يتميز بكل الحكمة والحصافة التي عرفت عنه- أن يقف وراء خطة غزو كوبا الفاشلة؟ الحقيقة أن هذا التناقض الذي نراه في كثير من الأحيان بين الحكمة وانعدامها وتعايشهما معاً في شخص واحد يمثل عاملاً متكرراً في السياسة الرئاسية الأميركية، وهو مازال مستمراً حتى يومنا هذا، فما كان صحيحاً وقتها عندما قيل إن الخطر المزعوم الذي يمثله فيديل كاسترو يلوح عريضاً في الأفق ينطبق اليوم أيضاً على موضوع أفغانستان، والسبب أن صناعة القرار في الولايات المتحدة تعتمد على مجموعة من الأوهام المنتشرة على نطاق واسع، والتي يقبلها العديد من المراقبين عن طيب خاطر، من أهم تلك الأوهام أن الرئيس، كما درجنا على الاعتقاد يعرف أشياء لا يمكن للآخرين معرفتها، أو على الأقل غير مسموح لهم بمعرفتها، لذا فإن الرؤساء مسلحون بمعرفة سرية يجهلها الآخرون كما يساعدهم مستشارون على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة ما يؤهلهم أكثر من غيرهم على رصد الأخطار المحدقة بالأمة، والطريقة الوحيدة لمواجهة تلك الأخطار والتهديدات هي بتسليم زمام الأمور إلى المكتب البيضاوي، وتركه يتصدى لها كما يجب، وهي ثقة عمياء في السلطة غير مبررة تفرز على الأقل مشكلتين أساسيتين تتعلق الأولى بالطبيعة الإنسانية للقرارات الرئاسية، والتي ثبت على مدار الزمن احتمال وقوعها في الأخطاء، ولعل الحملة التي قادها إيزنهاور للإطاحة بفيديل كاسترو خير دليل على ذلك، والمشكلة الثانية وربما تكون الأسوأ من سابقتها هي الاعتقاد بأن الرئيس قادر على الربط بين النقاط المختلفة لقراءة الصورة الأشمل، وذلك رغم الزيف الذي ينطوي عليه هذا الزعم، فقد اعتبر إيزنهاوز وكيندي الثورة الكوبية على أنها إهانة لا تغتفر للولايات المتحدة تعرض مجمل المنظومة الغربية للخطر لذا يتعين التخلص من زعيم تلك الثورة بأسرع وقت ممكن، لكن وبعد مرور نصف قرن واستمرار الثورة الكوبية من منا يكترث لها؟ بل من الصعب اليوم معرفة لمَ كل تلك الضجة التي أثيرت حولها قبل خمسين عاماً؟ وفيما يزعم البيت الأبيض أن الرؤساء يعملون وفقاً لجهاز دقيق لتحديد المواقع يقرأ الوجهة والخرائط يجب الاعتراف أن البيت الأبيض يتخبط وسط عتمة مطلقة سواء تعلق الأمر بالرئيس ليندون جونسون وغوصه في حرب فيتنام، أو جيمي كارتر وإطلاقه العمليات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان، أو تعلق الأمر بالرئيس رونالد ريجان وإرساله القوات الأميركية إلى بيروت، أو جورج بوش الأب الذي قرر إنقاذ الجوعى الصوماليين، أو ابنه الذي غزا العراق، فهذه المغامرات جميعاً تؤكد فقط المدى الذي تفاجئ فيه الأحداث الرؤساء وتجعلهم يرتكبون الأخطاء، وبالطبع لن يجرأ أحد في البيت الأبيض على الاعتراف بزيف المزاعم حول معرفة الرئيس المطلقة، ذلك أن الحفاظ على هالة المعرفة ضرورية لتكريس وهم القوة المطلقة والتي بدورها تبرر الصلاحيات الكبيرة المسندة إلى الرئاسة في الولايات المتحدة، وما أن يُعترف بأن الرؤساء ومستشاريهم العباقرة يعتمدون في الأغلب الأعم على التخمينات وبأنهم ليسوا أذكى من جماعة الأصدقاء الذين يتداولون أمور السياسة على ناصية المقهى، فإن كل تلك الهالة المحيطة بالعاصمة وبعملية صنع القرار ستتبدد في الهواء، كما أن جميع هؤلاء الأشخاص المهمين والمنشغلين بالقضايا الحساسة، كما يروجون لذلك، سيتبخرون، وفي هذه الحالة لكم أن تتصوروا شعور الناس العاديين وصدمتهم الثقيلة؛ وفي ظل هذا الواقع المتذبذب الذي يميز أروقة صنع القرار في واشنطن واحتمالات الخطأ المتكررة تبرز أزمة أوباما في أفغانستان، فتماشياً مع الطريقة التي دأب عليها الرؤساء من قبله أدلى بمجموعة من التصريحات حول مشاكل الأفغان وتطلعاتهم وتطرق إلى مصير البلاد واحترام الأميركيين لالتزاماتهم تجاه الأفغان، كما أن الرئيس يبدو على دراية تامة بما تحتاجه أفغانستان ما جعله يبلور استراتيجيته الخاصة القائمة على كسب العقول والقلوب التي ستضمن لنا النجاح حتى تاريخ سحب القوات. لكن الحقيقة تقول إن تلك الاستراتيجية في طريقها إلى الفشل وأنه لم يعد أمامنا الكثير من الوقت لتغيير الأمور على النحو الذي نريده، ما يطرح فرصة جديدة أمام أوباما إما الاعتراف بالواقع والإقرار بأن مصير أفغانستان ليس بأيدينا، أو اجترار المقولات نفسها عن نشر الحرية وتحميل الثمن للجنود الأميركيين الذين يواصلون دفعه بسبب عدم رغبة الرئيس في الاعتراف بأخطائه، وإذا كان إيزنهاور قد انتظر حتى عشية مغادرته للبيت الأبيض بعد قضائه ولايتين رئاسيتين للاعتراف بأخطائه في خطابه الوداعي فإن الأمل ألا ينتظر أوباما طويلا ليصارح مواطنيه. أندرو باسيفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"