هناك تطورات جديرة بالانتباه، حدثت في العالم مؤخرا، منها أن الاقتصاد العالمي تحطم لأن أنواع الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفوري، التي شكلت القوة الدافعة للثورة الصناعية، دخلت مرحلة الأفول، وأن البُنى التي أقيمت بنيت اعتماداً على تلك الأنواع من الطاقة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة. ومما يزيد الطين بلّة، أننا نواجه تغيراً كارثياً في المناخ بسبب انتشار غاز ثاني أوكسيد الكربون، وهو ما يعني أن موعد سداد فاتورة الطاقة الباهظة للعصر الصناعي قد حل حاملًا معه نذراً مشؤومة بتداعيات بعيدة المدى، تتعلق باستمرار الحياة ذاتها على وجه الأرض. ونواجه الآن أيضاً نوعاً من فقدان الثقة المجتمعية في المؤسسات الاقتصادية والسياسية، التي تشرف على الاقتصاد العولمي الهائل. ما الذي يحدث في عالمنا؟ الذي يحدث هو أن الجنس البشري يجد نفسه وقد بدأ يتلمس طريقه عبر ما يمكن لنا وصفه بـ"منطقة شفقية"(منطقة إيذان بقرب الاضمحلال) تقع ما بين حضارة في حالة احتضار، ولا يمكن إبقاؤها على قيد الحياة سوى من خلال أجهزة التنفس الاصطناعي، وبين حضارة بازغة لا تزال تتلمس مواضع أقدامها. في الوقت نفسه، نرى هويات قديمة وقد راحت تتفكك، وهويات جديدة تبرز بمشقة من رحم المجهول على نحو شديد الهشاشة يحول دون الإمساك بها. ولكي نفهم محنتنا الراهنة، واحتمالاتنا المستقبلية، فإننا بحاجة إلى أن نخطو خطوات قليلة للوراء ونسأل أنفسنا: ما هو الشيء الذي يمثل تغيراً جوهرياً في طبيعة الحضارات؟ إن التغييرات الكبرى في الحضارة تحدث عندما تلتقي أنظمة طاقة جديدة مع ثورات اتصالات جديدة، بما يؤدي إلى خلق عصور اقتصادية جديدة. وهذه الأشكال الجديدة من الاتصالات، تصبح آليات القيادة والسيطرة اللازمة لهيكلة، وتنظيم، وإدارة الحضارات الجديدة، الأكثر تعقيداً من سابقاتها، التي بات قيامها أمرا ممكنا بفضل أنظمة الطاقة الجديدة. وثورات الاتصالات لا تدير فقط أنظمة الطاقة الجديدة الأكثر تعقيدا، ولكنها تغير في الآن ذاته من الوعي البشري أثناء قيامها بهذه العملية. فمجتمعات الصيادين والباحثين عن الطعام في فجر البشرية، اعتمدت على الاتصالات الشفهية، وتكون وعيها بشكل عام حول الأسطورة والخرافة. أما الحضارات المائية - الزراعية فقد تمحورت في الجزء الأكبر منها، حول المخطوطات والنصوص المكتوبة، وغرقت حتى أذنيها في الوعي الديني. أما الثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر، فقد ساعد عليها الاتصالات المكتوبة -بعد اختراع المطبعة قبل ذلك بقرون - التي دشنت الوعي الأيديولوجي(العقائدي) في حين كانت الاتصالات الإلكترونية هي آلية القيادة والسيطرة اللازمة للتجهيز للثورة الصناعية الثانية في القرن العشرين، والتي أفرزت الوعي السيكولوجي. يتبين لنا من خلال ذلك أن كل ثورة اتصالات جديدة أكثر تطوراً من سابقاتها، تجلب معها - وتوحد في الوقت ذاته -أناسا أكثر تنوعاً واختلافاً وتضمهم في شبكات اجتماعية أكثر اتساعاً وشمولاً. والحضارات الأكثر تعقيداً، بدورها، تتطلب درجة أكبر من تنويع الأدوار، تتمثل في صورة مهارات ومواهب متخصصة قادرة على إنجاز الأنشطة الأكثر تنوعاً وتعقيداً للمجتمع الجديد. وهنا يقفز للذهن سؤال: ما هي الآلية التي تسمح لمجتمع أكثر تنوعاً وشخصنة بالتكون أولًا، ثم الانصهار بعد ذلك في كُل متماسك؟ العلماء على اختلاف تخصصاتهم بدؤوا يرون" يداً غير مرئية" تقوم بدور في تطور الحضارة الإنسانية. فالعالم الآن يشهد موجة من الاكتشافات العلمية المتتالية، التي تؤشر على أن البشر مركبون بطريقة دقيقة ومعقدة تجعلهم مهيئين للتوتر العاطفي، أي التوتر القائم على التقمص الوجداني الذي يقصد به قدرة شخص ما على الإحساس الوجداني بمعاناة شخص آخر، كما لو كانت معاناته هو الشخصية. والشعور الوجداني التقمصي المكثف، أو القدرة على تقمص الآخرين، والتماهي معهم وجدانياً، يمثل ما يمكن لنا وصفه بالمادة اللاصقة التي تجعل الأشخاص الذين ينحون لأن يكونوا أكثر فردية واستقلالًا على الدوام، على استعداد في الوقت ذاته للترابط مع بعضهم بعضاً في كيانات اجتماعية ممتدة ومتداخلة وأكثر اعتماداً على بعضها. هذه العملية هي التي تميز ما نطلق عليه" الحضارة". فعندما نقول إن مجتمعا ما يتحضر، فمعنى ذلك أن أفراده يصبحون أكثر قدرة على تقمص الآخرين، والتماهي معهم وجدانياً، بمعنى الإحساس بمعاناتهم ومشاركتهم محنهم. حدث هذا في الحضارات المائية - الزراعية، عندما توسعت آليات التقمص الوجدانية لتشمل ليس فقط التقمص الوجداني لمشاعر أناس آخرين من نفس القبيلة إلى التقمص الوجداني مع الأشخاص الذين يرتبطون معهم برباط مجتمعي وبعد ذلك للذين يرتبطون معهم برباط ديني مشترك. وهكذا أصبح المؤمنون باليهودية يتقمصون وجدانياً شخصيات المؤمنين الآخرين باليهودية (وبعد ذلك المسيحية والإسلامية بالطبع). وفي الثورة الصناعية الأولى امتد التقمص الوجداني إلى الحدود الوطنية حيث حدث نوع من التقمص الوجداني بين الأميركيين وبعضهم بعضا، وبين البريطانيين وبعضهم بعضا، وبين اليابانيين وبعضهم بعضا..وهكذا دواليك. والآن نقف على حافة نقطة التقاء تاريخية أخرى، بين أنظمة الطاقة، وأنظمة الاتصالات أي أننا أمام ثورة صناعية ثالثة، يمكن لها أن تمد نطاق التقمص الوجداني ليشمل البشرية جمعاء وللنطاق الحيوي Biosphere ذاته. فثورة الإنترنت تلتقي في الوقت الراهن مع الطاقات القابلة للتجدد مما يجعل من الممكن إقامة اقتصاد يتصف بأنه مستدام، وما بعد كربوني، مترابط ببعضه عالمياً، ويتم إدارته محلياً. وثورة الاتصالات الشاملة الجديدة لا تنظم الطاقات المتجددة فحسب، وإنما تؤدي أيضاً إلى تغيير الوعي الإنساني. فتقنيات المعلومات الجديدة، تقوم وعلى نحو سريع، بمد نطاق النظام العصبي المركزي ليشمل المليارات من البشر، كما تقوم بتوصيل الجنس البشري عبر الزمان والمكان بما يسمح للتقمص الوجداني بالازدهار، ليس على نطاق مجتمعي، أو قومي، أو ديني، وإنما على نطاق عالمي، ولأول مرة في التاريخ. ولننظر هنا إلى الاستجابة التقمصية الوجدانية الهائلة التي أبداها الجنس البشري مع ضحايا زلزالي هايتي وشيلي، والتي يعود الفضل فيها لأنظمة الاتصالات الفورية بواسطة الفضائيات والإنترنت، والتي جعلت هؤلاء البشر قادرين على رؤية الكارثة التي تحل برفاقهم في الإنسانية في نفس اللحظة التي وقعت فيها. إن المطلوب الآن هو تحقيق قفزة في التقمص الوجداني البشري بحيث يمتد عبر الحدود الوطنية إلى حدود النطاق لحيوي، أي ذلك الجزء من العالم الذي يمكن للحياة أن توجد فيه. ونحن بحاجة أيضا إلى خلق ثقة اجتماعية على نطاق عالمي، إذا كنا حقاً نريد إقامة اقتصاد كوني متكامل، وعادل، ومستدام، وخالٍ من الأخطاء. والحقيقة أن ذلك بدأ بالتبلور بالفعل: فالفصول الدراسية في مختلف أنحاء العالم، بدأت في التحول إلى مختبرات، مهمتها إعداد الشباب لمرحلة الوعي البيوسفيري (أي الوعي الذي يمتد ليشمل النطاق الحيوي لكوكب الأرض)، فالأطفال الآن أصبحوا يدركون أن أي شيء يفعلونه، بل والطريقة التي يعيشون بها تترك ما يعرف بالبصمة الإيكولوجية(البيئية) التي تؤثر على حياة كل كائن بشري آخر يعيش على سطح هذا الكوكب، وعلى النطاق الحيوي الذي نعيش بداخله سوياً. لم يعد بمقدورنا بعد الآن، أن نمارس التقمص الوجداني مع أفراد عائلتنا الممتدة فحسب ولا داخل حدودنا الوطنية فحسب، ذلك لأن اقتصاد النطاق الحيوي سيتطلب اعتناقاً عالمياً لمبدأ التقمص الوجداني بحيث نفكر فيه كأنواع species ونقوم بذلك بإرساء دعائم الحضارة التقمصية الوجدانية.