ليس من النادر رؤية مظاهرات احتجاجية في روسيا، ولكن معظمها ينصب عادة على قضايا محلية أو ذات طبيعية مطلبية اجتماعية واقتصادية. إلا أن الشهر الماضي سجل اختراقاً في سقف مطالب الاحتجاجات حيث ترددت هتافات تتجاوز المطالب العادية، داعية إلى استقالة رئيس الحكومة، فلاديمير بوتين. ومع أن هذه المظاهرات - نُظمت إحداها في شهر يناير الماضي بكالينجراد على الحدود الغربية لروسيا والأخرى في الأسبوع الماضي بمدينة أيركتوسك السيبيرية - لم تكن بالضرورة مترابطة ومن غير المرجح أن تتطور إلى حركة سياسية واسعة، إلا أنها تؤشر، على كل حال، إلى الشروخ التي بدأت تعتري النظام السياسي للكرملين، وهو نظام قائم على مركزية السلطة والغموض في اتخاذ القرارات، فضلا عن انعدام المحاسبة. وعلى رغم التسامح الذي تقابل به الحكومة عادة التجمعات الصغيرة للمواطنين المحتجين على أوضاعهم، إلا أنها في أحيان أخرى كثيرة تتعامل معها بقسوة مثل الحالات التي تعرض فيها المحتجون بوسط موسكو للضرب من قبل رجال الشرطة. فعندما احتج في أواخر عام 2008 خمسة آلاف شخص على القيود التي فرضتها الحكومة على استيراد السيارات المستعملة، مطالبين بوتين بالاستقالة، أرسل الكرملين على وجه السرعة قوات أمن خاصة لإخماد الاحتجاج الذي تفرق المشاركون فيه بعدما لمسوا إصرار الشرطة على استخدام العنف بقوة. ولكن مع ذلك تمكنت بعض الاحتجاجات في الآونة الأخيرة من إيصال رسالتها المناهضة لبوتين دون تدخل الشرطة مع توقعات باستمرار سلسلة المظاهرات، من هذا القبيل، في المدن الروسية. فقد كانت مظاهرة كالينجراد كبيرة بالمقاييس الروسية حيث شارك فيها حوالي عشرة آلاف شخص، ومع أن الإحباط الاقتصادي كان وراء اندلاع المظاهرة فقد رفع العديد من المشاركين شعارات ذات طبيعة سياسية ونادوا باستقالة بوتين ومعه حاكم المدينة "جورجي بوس". وربما يرجع السبب إلى طبيعة المدينة وقربها من الحدود الغربية حيث ألمانيا وبولندا، وتأثرها بالروح الغربية، لاسيما في ظل حركة النقل المتيسرة بين البلدان المجاورة، وعبور العديد من الروس بانتظام إلى ألمانيا للعمل والتجارة أكثر من سفرهم إلى موسكو العاصمة نفسها. ولذا تعتمد كالينجراد في نشاطها الاقتصادي على تجارة السيارات المستعملة، وكانت قد تأثرت سلباً بقرار الحكومة القاضي بالحد من استيراد السيارات المستعملة وفرض ضرائب عليها. وعندما رفع الكرملين في السنة الماضية ضريبة النقل على مستخدمي السيارات ثارت حفيظة سكان المدينة وخرجوا إلى الشارع احتجاجاً على الوضع، ولكن عندما تجاهلت الحكومة المظاهرة الأولى التي جرت في شهر ديسمبر الماضي وشارك فيها حوالي خمسة آلاف شخص خرجت مظاهرة أكبر في 30 يناير الماضي بعدد مشاركين وصل إلى عشرة آلاف محتج، واسُتقبلت المظاهرة بتعاطف واضح من قبل الشارع بسبب الاستياء العام من الحاكم "بوس"، فمنذ إلغاء انتخابات المحافظات في روسيا قبل خمس سنوات اعتمدت موسكو على نظام معقد من الاختيار يتوج في نهاية المطاف باختيار الرئيس للمحافظين وحكام الأقاليم. ولأن "بوس" ليس من سكان كالينجراد فإن الناس فيها ينظرون إليه كدخيل جاء ليخدم مصالحه ومصالح القوى التي ساهمت في تعيينه. وفي خطوة غير مألوفة في روسيا شاركت في الاحتجاج الكبير الذي شهدته كالينجراد بعض الشخصيات البارزة المعروفة بمعارضتها للكرملين مثل "بوريس نيمتسوف". ولم يمر وقت طويل ، كما قال أحد شهود العيان، حتى شرع المتظاهرون في رفع شعارات تطالب بتنحي بوتين و"بوس". واللافت أن الشرطة ظلت بعيدة ولم تتدخل لتفريق المتظاهرين. أما في مدينة "إيركتوسك" فقد اندلعت المظاهرات بعد فتح مصنع بالقرب من بحيرة "بايكال" التي تتوفر على أكبر خزان للمياه العذبة في العالم وتعتبر مصدر فخر للمنطقة وسكانها، وعلى رغم إصدار تعليمات من موسكو في عام 2008 بإغلاقه عاد المصنع ليفتح أبوابه مجدداً في شهر يناير الماضي مع ما يشكله من تهديد لمياه البحيرة. ومع فرص العمل التي سيخلقها المصنع للأهالي، إلا أنهم رأوا فيه مصدر تهديد للبحيرة، وتملقاً لصاحبه الملياردير "أوليج ديريباسكا". وخلافاً لمظاهرة كالينجراد لم تُرفع هناك كثيراً اللافتات المطالبة باستقالة بوتين واقتصرت على عدد محدود من المشاركين. وللالتفاف على مطالب الرأي العام وإخفاء المظاهرات التي تشهدها بعض المدن الروسية يلجأ الكرملين عادة إلى التعتيم الإعلامي ويمنع وسائل الإعلام التابعة له من تغطيتها ونقلها إلى الجمهور، فالرقابة الشديدة تمكن الكرملين من السيطرة على المعلومة، كما أن التحكم في آليات القرار يسمح له برفع الضرائب والرسوم، أو تجاهل الأخطار البيئية دون الخضوع للمحاسبة. ويعني تعيين الكرملين لحكام الأقاليم القدرة على إقالتهم في أية لحظة، ما يبقيهم تحت تصرف موسكو. ولكن عندما تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى اتخاذ موسكو لقرارات غير شعبية يتحول الاستياء إلى مظاهرات تندلع بين الحين والآخر في المدن الروسية. وبالطبع ليس من السهل على الكرملين الذي يمثل السلطة المركزية مراقبة التطورات على امتداد الأراضي الروسية الشاسعة والموزعة على 12 منطقة زمنية، لاسيما في هذه الفترة التي تعرف فيها البلاد أزمة اقتصادية تجعل من الصعب عليها حل المشاكل بمجرد سياسة توزيع الأموال والامتيازات. ماشا ليبمان باحثة في مركز كارنيجي بموسكو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"