لقد حان الوقت لأن نأخذ أفغانستان على محمل الجد، لا سيما وأن الانسحاب من هناك ليس خياراً جدياً. وبعد أن استثمرت كل من الولايات المتحدة الأميركية وحلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي أموالا وجهوداً طائلة في بسط الأمن والاستقرار هناك خلال السنوات الثماني الماضية، فليس من الحكمة أن تتخلى هذه الأطراف عما استثمرت فيه، لمجرد أن مقاتلي حركة "طالبان" أثبتوا أنهم عدو أكثر شراسة من أي تصورات سابقة عنهم. ولكن لا تزال هناك فجوة كبيرة تفصل بين الأهداف التي حددتها إدارة أوباما لجهودها في أفغانستان، والوسائل المتوفرة لتنفيذها. ولا تسد هذه الفجوة بإرسال عشرات الآلاف من الجنود والتعزيزات العسكرية إلى أفغانستان، إنما بمعرفة وتحديد ما نستطيع تحقيقه فعلياً في ذلك البلد. والحقيقة الأمنية الأبرز في عالم ما بعد هجمات 11 سبتمبر هي عجز قوى التطرف والإرهاب عن تنفيذ هجمات مشابهة لها على أراضي بلادنا. ويعود السبب الرئيسي لهذا العجز إلى تحول تنظيم "القاعدة" إلى تنظيم مُلاحق في أفغانستان وباكستان. وتعتمد الحملة على كلا التنظيمين الإرهابيين "القاعدة" وحركة "طالبان”- على العمل الاستخباراتي وجهود القوات البرية. وقال لي مسؤول عسكري رفيع المستوى شارك في تخطيط هذه الحملات إن الوجود العسكري للولايات المتحدة في أفغانستان كان عاملا رئيسياً في الضربات الناجحة التي وجهت إلى قادة ومعسكرات تنظيم "القاعدة". وفيما لو انسحبت الولايات المتحدة من هناك، فإن من المتوقع أن يتصارع قادة المنطقة الإقليمية جميعهم من أجل إيجاد موطئ قدم ونفوذ لهم فيها. ولا يعني ذلك شيئاً إن حدث سوى إحياء ذلك التحالف المسموم القائم سابقاً بين الجيش الباكستاني والتيار الأكثر تطرفاً وتشدداً من تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". كما يجدر التذكير بحقيقة أن الحرب الأفغانية ليست كتلك التي خضناها في العراق. صحيح أن عدد القتلى المدنيين قد ازداد وأصبح مثيراً للقلق، إلا أن مجموع المدنيين الذين قتلوا فيها طوال السنوات الثماني الماضية، يظل أقل من الضحايا المدنيين الذين لقوا حتفهم في عراق عام 2006 وحده. وفي الانتخابات الرئاسية الأفغانية الأخيرة، يلاحظ أن المرشحين الأربعة للمنصب الرئاسي يؤيدون استمرار وجودنا العسكري على عكس تسابق الساسة العراقيين على شجب وجودنا في بلادهم، سعياً منهم لإرضاء قواعدهم الناخبة التي تكن مشاعر العداء لبلادنا. وفيما يبدو فقد تمحورت استجابة إدارة أوباما للمعضلة الأفغانية فيما يلي: إرسال المزيد من الجنود إلى ساحات القتال، وكذلك تنفيذ المزيد من المهام العسكرية والمدنية هناك. ليس من خطأ بالطبع تقديم المساعدة اللازمة للأفغان وتمكينهم من تنمية بلدهم. ولكن إن أردنا لأفغانستان أن تكون لها حكومة مركزية قوية وفاعلة، وأن يكون لها اقتصاد قادر على البقاء والازدهار بعيداً عن الاعتماد على تجارة المخدرات، فإن علينا أن ندرك أن تحقيق هذه الأهداف بعيدة المدى، يستغرق عقوداً كاملة وليس سنوات فحسب. يذكر أن أفغانستان تعد بين أفقر 10 دول في العالم كله، بينما ظلت حكومتها المركزية تتسم بالضعف على مدى عدة قرون مضت. وفوق ذلك كله تصل معدلات الأمية بين المواطنين إلى حوالي 70 في المئة. وإذا أردنا بناء قوة أمنية وطنية هناك، يقدر عدد أفرادها بنحو 400 ألف جندي -كما يقترح بعض أعضاء الكونجرس- فإن هذه المهمة سوف تكون شاقة للغاية في سياق الظروف المحلية التي تحدثنا عنها، إضافة إلى أن تكلفتها السنوية سوف تصل إلى حوالي 300 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الأفغاني. كما يتعين تحويل المهمة الأفغانية من مهمة لبناء الأمة -وهي استراتيجية إدارة بوش السابقة- إلى مهمة تهدف لإبرام صفقة مشتركة بين الأفغان، في ظل إدارة أوباما الجديدة. ذلك أن المعضلة الرئيسية التي تواجهها أفغانستان هي أن قبائل البشتون تمثل حوالي 45 في المئة من إجمالي السكان، ونسبة 100 في المئة من عناصر حركة طالبان، ومع ذلك فهي ليست راضية عن دورها ولا عن وضعها السياسي في البلاد. وهذا ما يستدعي التفاوض معها، سواء كانت تتبع لـ "طالبان اسمياً أم خلاف ذلك. كما يجب أن يكون الهدف الرئيسي لاستراتيجية أميركا الرامية إلى بسط الأمن في أفغانستان، هو استقطاب قبائل البشتون بشتى الطرق الممكنة، بما فيها شراؤها ورشوتها، تماماً مثلما فعلت بريطانيا خلال فترة حكمها لأفغانستان. كما يتطلب إبرام الصفقة الأفغانية أن تكف الولايات المتحدة عن هجومها على الرئيس كرزاي، وتبدأ بالتعاون معه بدلا من معاداته. فمعطيات الواقع تؤكد حاجة أفغانستان إلى قائد بشتوني. وعلى واشنطن أن تتجاوز ما يقال عن ممارسات الفساد والتزوير التي صاحبت الحملة الانتخابية الأخيرة. فذلك جزء من الواقع الأفغاني، ولن يكون أي قائد غيره أكثر نزاهة منه، شئنا ذلك أم أبينا. وعليه يمكن القول إن أفضل استراتيجية يمكن أن تتبناها واشنطن هي دفع كرزاي باتجاه التعاون مع خصمه ومنافسه الرئيسي عبدالله عبدالله من خلال ائتلاف ما ينشأ بينهما. فالحقيقة أن الانتخابات الأخيرة نفسها -على رغم ما وجه إليها من انتقادات ومآخذ- توفر فرصة مناسبة لتشكيل حكومة وحدة وطنية أقوى مما كانت عليه حكومة كرزاي السابقة للانتخابات. وفيما يتصل باستراتيجية تحسين الوضع الأمني هناك، يبدو أن هناك ثلاث طرق لتحقيق هذا الهدف. أولاها زيادة عدد القوات الأميركية، وثانيتها زيادة عدد قوات الشرطة والجيش الأفغانيين، وثالثتها تقليص عدد المتمردين والأعداء، إما بدفعهم إلى تغيير مواقفهم المعادية، أو حثهم وتشجيعهم على إلقاء أسلحتهم. وقد حققت الاستراتيجية الثالثة نجاحاً كبيراً في العراق، ومن الواجب تبنيها وتطبيقها في أفغانستان. ومن رأيي أن نجاحنا يكمن في إبرام صفقة أفغانية تساعد على تحول أفغانستان إلى دولة طاردة لتنظيم "القاعدة" وغيره من الجماعات الإرهابية المتطرفة. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"