ما رأيكم في هذا العنوان: "إلى هنا يأتي أوباما الساحر الأسود"؟ لو رأى أحدهم هذا العنوان في الولايات المتحدة، لكان اعتبرها إهانة وتعليقاً يطفح بالعنصرية، لاسيما وأنه يذكر بتلك العبارة التي أثارت صخباً كبيراً في احتفالات رأس السنة الماضية عندما أقدم أحد أعضاء "الحزب الجمهوري" على تسجيل أغنية ساخرة تتضمن عبارة نصها "باراك الزنجي الأسود"، وأرسلها في قرص مدمج إلى باقي الأعضاء، ليسارع السياسيون والمعلقون الأميركيون من شتى المشارب إلى إدانة الأغنية واستنكار ما حملته من مضمون عنصري. لكني لست في أميركا التي تطفح بأجواء العنصرية البائدة وتتحسس أقلياتها من إشارات تذكّرها بماضٍ أليم، بل أنا متواجد اليوم في غانا حيث قرأت مؤخراً عبارة "الساحر الأسود" كعنوان لمقال يتحدث عن زيارة أوباما إلى غانا في العاشر من يوليو الجاري، فوجدت نفسي مندهشاً من العفوية والسلاسة التي تحيط موضوع العرق هنا في غانا، بحيث يخلو من أي حمولات سلبية، أو مضامين قدحية، فأنا عندما أقوم بجولة في شوارع العاصمة "أكرا"، لا يتحرج الناس عن مناداتي بـ"أوبروني"، وهي كلمة محلية معناها "الرجل الأبيض"، لأرد والابتسامة تعلو وجهي: "أوبيبيني"، ومعناها "الرجل الأسود"، ثم نتبادل التحايا في جو مرح بعيد عن التشنج والتوتر. والحقيقة أن هناك سبباً وجيهاً لهذا الموقف المتسامح جداً مع القضايا العرقية، والتي إنْ أثيرت في أميركا لتَفجر الموقف وانتهى بتوتر شديد. فمعظم الغانيين لا ينحدرون من أسلاف عانوا من ويلات العبودية وعذاباتها، ولا تجرعوا الإهانات المرتبطة باستعباد آبائهم... لذا تجدهم أقل تحسساً من قضايا العرق وأقل اهتماماً بلون البشرة وما تثيره أحياناً من تعليقات عنصرية... خلافاً لما تستدعيه هذه الإشارات من ذكريات أليمة لدى الأميركيين السود الذين يعيشون مع مرارة العبودية التي عانى منها أجدادهم، والصراعات اللاحقة لإقرار حقوقهم المدنية في بيئة معادية لم تتصالح معهم إلا مؤخراً. هذه التجربة التاريخية المختلفة بين السود في أميركا بماضيهم الأليم مع العبودية، وبين التجربة الغانية التي لم يعش أبناؤها العبودية ولا عرفوا مراراتها، هذا الاختلاف هو ما يفسر إلى حد كبير الحماسة الفائقة التي يبديها الغانيون لاستقبال الرئيس أوباما والفخر الذي يشعرون به إزاءه، باعتبار غانا أول بلد في أفريقيا جنوب الصحراء يستضيف أول رئيس أميركي من أصول أفريقية. لكن الأهم من ذلك افتخارهم بأن أوباما، وعلى غرار معظم الغانيين، لا ينحدر من ميراث العبودية ولا يرتبط بتجربته التاريخية. في المقالة التي اختارت عنوان "الساحر الأسود" وتناولت زيارة أوباما، ذكر الكاتب أن "الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة ينحدر من أب كيني ذهب إلى أميركا للدراسة حيث تزوج بامرأة من أصول أسكتلندية وهندية أميركية، لذا فإن لون بشرة أوباما لا علاقة له بتجارة العبيد اللاإنسانية التي انطلقت في القرن السابع عشر". وبالطبع تثير هذه التجارة شعوراً غير مريح بالذنب في نفوس الغانيين لما لعبه آباؤهم من دور في احتجاز العبيد قبل نقلهم إلى الموانئ الأوروبية والأميركية، وهو ما يفسر القلق الذي يجتاح الغانيين من زيارة أوباما وزوجته للقلاع التي كان يُحتفظ فيها بملايين العبيد، وهم مقيدي الأيدي والأرجل، قبل نقلهم عبر البحار والمحيطات إلى مصيرهم المؤلم. لكن مع ذلك يعيد صاحب المقال تذكيرنا بما يعتبره مهماً، وهو ذلك الاختلاف في التجربة التاريخية بين السود في أميركا وبين أوباما صاحب التجرية الشخصية المتحررة من ماضي العبودية والأقرب إلى تجربة الغانيين، قائلا: "خلال هذه الزيارة علينا ألا نبالغ في لعب ورقة العنصرية، لأن أوباما نفسه ليس سليل العبيد". ويُخشى أن ميشيل أوباما، وليس الرئيس باراك نفسه، كما تنقل الشائعات، هي من أصرت على زيارة قلاع العبيد في غانا، اعترافاً منها بفظاعات الماضي وانتهاكاته الجسمية لآدمية الإنسان. وفيما عدا القضايا المرتبطة بالعرق، والتي تثيرها زيارة أوباما والجراح القديمة التي تنكأها، لاسيما في أميركا نفسها وليس في غانا كما أوضحنا، يبقى السؤال الأساسي الذي يتردد في وسائل الإعلام الغانية والغربية، هو: لماذا وقع اختيار الرئيس على غانا وليس غيرها من الدول الأفريقية؟ ولماذا هذا التوقيت بالذات؟ الجواب البديهي الذي يتبادر إلى الذهن هو ديمقراطية غانا، فقد نجحت البلاد بعد انتخابات متقاربة وشرسة، في شهر ديسمبر الماضي، في نقل السلطة بهدوء وسلاسة من حزب إلى آخر، دون إراقة الدماء أو إشاعة الفوضى، لتصبح غانا في مناخها الأفريقي الذي تسوده الديكتاتورية والعنف، مثالا رائداً للاستقرار يستحق الاحتذاء. ولا شك أن أوباما، من خلال زيارته، يريد التأكيد على هذا المعطى ومكافأته. لكن أوباما يسعى إلى أكثر من الديمقراطية الغانية، إنه يريد النفط، كما يؤكد ذلك العديد من المراقبين الغانيين، فلا بد أن الاكتشافات الأخيرة لاحتياطيات نفطية مهمة قبالة السواحل الغانية، أثارت شهية الولايات المتحدة، وهي شهية مفتوحة دائماً على استهلاك الطاقة، خاصة وأنها تستورد 16 في المئة من احتياجاتها النفطية من أفريقيا الغربية، مع التوقع بارتفاع تلك النسبة بحلول عام 2015 إلى 25 في المئة. ويطمح أوباما على وجه الخصوص إلى تأمين الحصة الأميركية من النفط في غانا قبل أن تنتبه الصين التي لها مخططاتها الخاصة في نفس المنطقة. والحقيقة أن الدافعين وراء الزيارة ليسا متناقضين، بل يكملان بعضهما بعضا، إذ باحتفاء أميركا بالديمقراطية في غانا يمكنها أيضاً تمهيد الطريق لعلاقات تجارية متميزة في مجال النفط وباقي جوانب التنمية الاقتصادية. وإذا كان البعض يعتقد أن التنمية الاقتصادية ممكنة في غياب مؤسسات ديمقراطية، فما عليهم سوى النظر إلى نيجيريا، فرغم احتياطاتها الهائلة من النفط، أو ربما بسببها، تغرق نيجيريا في مستنقع من الفقر والفساد، ناهيك عن كينيا، موطن آباء أوباما، التي تعاني من صراع داخلي مرير منذ أن زارها آخر مرة في عام 2006. لذا يشير المراقبون إلى رغبة أوباما في مكافأة غانا، الديمقراطية الصغيرة، وتفضيلها على بلدان أفريقية أكبر لكنها أقل ديمقراطية... وهو رأي يدافع عنه "وول سوينكا"، النيجيري الحائز على جائزة "نوبل" للآداب، والذي حذر من أن زيارة أوباما لنيجيريا ستكون دعماً لطبقتها الحاكمة بما تمارسه من قمع وفساد. وقد عبر "سوينكا" عن رأيه بصراحته المعروفة قائلا: "إذا قرر أوباما مكافأة نيجيريا بحضوره، سأرجمه... فالرسالة التي يريد إيصالها بزيارته لغانا واضحة جداً، ومن الضروري ألا يقوضها بقدومه إلى نيجيريا". جونثان زيمرمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ والتربية بجامعة نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"