منذ الشهر الماضي تجري مفاوضات بين إدارة أوباما الأميركية وحكومة نتانياهو الإسرائيلية حول وقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. وشهد يوم الاثنين الماضي جولة أخرى من المفاوضات في لندن بين الطرفين حول الموضوع نفسه. اللافت أن ممثل حكومة نتانياهو المتطرفة في التفاوض حول ملف الاستيطان هو الزعيم السابق لحزب "العمل"، وزير الدفاع إيهود باراك. مما يؤكد أنه ليس هناك فرق بين اليمين واليسار داخل المؤسسة الرسمية الإسرائيلية حول هذا الموضوع. الموقف المعلن لإدارة أوباما أن السلام لا يمكن أن يتحقق بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل وقف الاستيطان. وتعريف الإدارة للوقف هنا هو الوقف الكامل لكل أشكال البناء، بما في ذلك البناء داخل حدود المستوطنات القائمة، أو ما يسميه الإسرائيليون بالبناء استجابة للنمو الطبيعي. ومن جانبها رفضت حكومة نتانياهو المطلب الأميركي، وأعلنت أنها سوف تستمر في البناء داخل المستوطنات. ليست هذه أول مرة يتفاوض فيها الأميركيون والإسرائيليون حول الاستيطان. لكن يبدو أن هناك فارقا مهما بين ما كان يحدث أيام الإدارات السابقة، وما يحدث الآن مع إدارة أوباما. مع الإدارات السابقة كان التفاوض يتم في الغالب بعيداً عن الإعلام، ودائماً ما كان محصوراً في إطار تفاهم مسبق ومتفق عليه، وهو ترك الإسرائيليين يواصلون البناء حسب ما يسمونه النمو الطبيعي، ومن ثم غض الطرف عن كيف يتم ذلك. هذه المرة ترى الإدارة الحالية أن الاستيطان غير شرعي، وعليه فهي ليست ملزمة بالتفاهمات السابقة. هي تريد وقفاً كاملا لكل أشكال الاستيطان: "القانوني" كما يسميه الإسرائيليون، و"غير القانوني"، "النمو الطبيعي" أو "غير الطبيعي". الفارق الآخر هو أن هذه الإدارة تضع وقف الاستيطان كشرط لاستمرار ونجاح عملية السلام. إلى أين ستقود هذه المفاوضات؟ هل تتمسك الإدارة بموقفها؟ أم ستضطر إلى التراجع عنه؟ بهذا المعنى هناك مؤشر على خلاف، وربما صدام أميركي إسرائيلي حول الاستيطان. موقف الإدارة أصاب الإسرائيليين بحيرة مشوبة بالإحباط. أشاروا إلى التفاهمات السابقة مع إدارة بوش الابن، فردت وزارة الخارجية الأميركية أنه ليس في سجلات الإدارة السابقة ما يشير إلى مثل هذه التفاهمات. طبعاً وزارة الخارجية تعرف أن هذه التفاهمات كانت موجودة، لكنها لم تكن مكتوبة، وهي ليست مكتوبة لأنها ليست قانونية. هل يعني هذا أن إدارة أوباما تريد تغيير السياسة الأميركية حول الاستيطان؟ الأرجح أن هذا ما يحصل. لكن بأي معنى تحديداً؟ ولأي هدف؟ هذا ليس واضحاً بعد. يحتاج الأمر إلى شيء من التفصيل. تغيير السياسة هنا لا يعني بالضرورة أن الإدارة الحالية سوف تطالب إسرائيل لاحقاً بتفكيك المستوطنات القائمة. وإنما تريد وقف مصادرة الأراضي، ووقف البناء في المستوطنات حتى لا يؤدي بالضرورة إلى مزيد من مصادرة الأراضي. تريد الاكتفاء بما هو قائم، وجعله جزءاً من الأرضية التي ينبغي توفرها لبدء المفاوضات. والذي يبدو هو أن إدارة أوباما توصلت إلى قناعة بأن إسرائيل تستخدم التفاهمات السابقة للاستمرار في توسيع المستوطنات، وفي مصادرة مزيد من الأراضي لبناء مستوطنات جديدة. واستمرار الاستيطان بهذه الوتيرة يسمح بـ "المستوطنات العشوائية" أو "غير القانونية"، والتي مع الوقت يتم ضمها لاحقاً إلى ما يسمى المستوطنات "القانونية". بهذه الطريقة سوف يتغير الواقع على الأرض بحيث لا يكون هناك مجال لمفاوضات ذات معنى يمكن من خلالها التوصل إلى سلام على أساس من مفهوم الدولتين. إلى هنا يبدو موقف الإدارة الحالية، وفي هذه المسألة تحديداً، إيجابياً مقارنة مع الإدارات السابقة. لكن ما ليس واضحاً هو التصور أو الرؤية الأوسع لهذه الإدارة حول طبيعة وحدود الاتفاق المنتظر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكيفية التوصل إلى هذا الاتفاق. وبالتالي ما ليس واضحاً أيضاً هو كيف، وأين تضع الإدارة موقفها الحالي من مسألة الاستيطان في إطار ذلك التصور أو الرؤية الأشمل. بالتوازي مع موقفها المتشدد من الاستيطان، كما يراه الإسرائيليون، تطلب الإدارة من الدول العربية الإقدام على اتخاذ خطوات تطبيعية مع إسرائيل. ومن ذلك: السماح للخطوط الإسرائيلية باستخدام الأجواء العربية في الطيران، خاصة إلى آسيا، وفتح خطوط الاتصال الهاتفي بين الدول العربية وإسرائيل، إلى غير ذلك. هدف الإدارة من ذلك مزدوج: دعم موقفها، وإعطاؤها ورقة تفاوضية مع الإسرائيليين، ومن ناحية أخرى تطمين الإسرائيليين حول النوايا السلمية العربية، وبالتالي دفعهم للإقدام على خطوة وقف الاستيطان. وهنا تبرز أكثر من إشكالية. أولا: إن وقف الاستيطان لا يعتبر بأي شكل من الأشكال، ولا وفقاً لأي معيار قانوني أو سياسي، تنازلا يفترض أن يقابل بتنازل مماثل. وذلك لأن الاستيطان تم ويتم في أراض محتلة حسب القانون الدولي، وبالتالي فهو انتهاك لهذا القانون، وانتهاك لحقوق ملكية الفلسطينيين للأراضي التي تقوم عليها المستوطنات. ثانياً: وبناء على ذلك، فإن وقف الاستيطان هو امتثال متأخر لمقتضيات القانون الدولي. وحتى يمكن القول تجاوزاً بأنه تنازل يتطلب تنازلا في المقابل، فإنه يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ، وبداية لتفكيك كل المستوطنات، وليس فقط ما يسمى بالبؤر الاستيطانية، في كل أنحاء الضفة الغربية، وخاصة الموجود منها في حدود القدس الشرقية. ثالثاً: إن إقدام الدول العربية في هذه الحالة على ما تسميه الإدارة "خطوات تطبيعية"، وحتى قبل الإعلان عن وقف الاستيطان، هو تنازل نوعي مسبق ومن دون مقابل. رابعاً: سبق للدول العربية أن قدمت من قبل تنازلات نوعية كبيرة لإسرائيل، لكن الأخيرة لم تقابلها إلا بمزيد من التوسع في الأرض، والتشدد في مطالبها الأمنية والسياسية. بعبارة أخرى، استخدمت إسرائيل التنازلات العربية السابقة كغطاء لسياساتها التوسعية، وللإمعان في تغيير الواقع على الأرض سعياً وراء ترسيخ هدفها الاستراتيجي بتوسيع نطاق سيادتها على هذه الأرض. خامساً: ليس هناك حتى الآن أي مؤشر واضح وملموس على أن لدى إسرائيل قناعة راسخة في هذه المرحلة بجدوى التوصل إلى اتفاق سلام حقيقي ومتوازن مع الفلسطينيين. على العكس من ذلك، لا تزال الدولة العبرية تستخدم لعبة المفاوضات، والتنازلات للاستمرار في سياساتها التوسعية. سادساً: هل يتوقف التمويل الأميركي لعمليات الاستيطان؟ حتى الآن لم يرشح شيء على أن الإدارة ستقدم على هذه الخطوة. أخيراً هل تستطيع الإدارة ضمان إيقاف الاستيطان نهائياً وبكل أشكاله؟ التجربة تقول بأنه لا حكومة نتانياهو، ولا أي حكومة إسرائيلية أخرى، ستوقف الاستيطان. الاستيلاء على الأرض هو هدف استراتيجي تأسست عليه الحركة الصهيونية، ومهمة الدولة العمل على تحقيق هذا الهدف. تجدر الإشارة هنا إلى أن "الصندوق القومي اليهودي"، حسب صحيفة "هآريتس" الإسرائيلية، اتخذ في مؤتمره الخامس قراراً بأن هذا الصندوق الذي يمول شراء الأراضي في فلسطين هو ملك أبدي للشعب اليهودي، وذلك اتساقاً مع المبدأ التوراتي الذي يعتبر أرض فلسطين ملكاً لليهود. بداية إدارة أوباما بموضوع الاستيطان صحيحة، لكن رؤيتها لطبيعة هذه القضية ليست كذلك. ومن ثم فإن مطالبتها الدول العربية باتخاذ خطوات تطبيعية هي بمثابة مطالبتها بتقديم تنازلات مجانية، وغير مبررة، وتصطدم رأساً مع موقف الإدارة من الاستيطان، ومع هدف السلام الذي تقول إنها تعمل على تحقيقه.