لا شك، أن الخلل في أداء وزارة من الوزارات، أو مؤسسة من المؤسسات، يؤثر سلباً على حال البلاد العامة. بل ويضع سياسة الحكومة في الميزان. لكن الخلل في وزارة المعارف له شأن آخر، فالشفاء من علله الجسام يحتاج إلى تعاقب أجيال. هذا، وعنوان الوزارة «التربية والتعليم» يغني عن المقال في خطورة تلك المؤسسة. لقد مرت عقودٌ ونشْأُ العراق يُشحن بالأيديولوجيا، على نغمة واحدة ومن طنبور واحد، حتى أسفرت تلك الجبرية عن أجيال محطمة، تقبلت اللامعقولات بسهولة! فكم مهدي خرج على الحكومة، معلناً «صيحة» الظهور! وكم مزار وهمي جذب الناس بعد زلزال 2003! ومن البداية، لم يخل العهد العثماني من اهتمام بالتعليم، وكان مناطاً بمجلس معارف بغداد. ومن طريف ما يذكر آخر مدير له، وهو حكمت سليمان (ت 1964)، أن اُستغلت أربعمائة ليرة ذهبية، وهي رشوة قدمها أحد الوجهاء لوالي بغداد لقضاء حاجة ما، لبناء المدرسة المأمونية، ودار المعلمات، ومدرسة تطبيقات المعلمين (الهلالي، قال لي هؤلاء). كانت المعادلة معكوسة: انفتاح أهل السلطة وتشدد الناس، يقابله في الزمن الحاضر انفتاح الناس وتشدد السلطة، ولو كان منه مسايرة ونفاقاً. فيوم ذاك حار الوالي العثماني ومجلس المعارف بإيجاد بناية مناسبة لفتح مدرسة للبنات؛ ترضي الأهالي، على ألا تكون لها شبابيك مطلة على شارع، ولا مجاورة لدار فيها نخلة باسقة أو سدرة عالية. وبعد الجدل، في المجلس بحضور الوالي، أجاب الزهاوي (ت 1936)، وكان عضواً في المجلس ومتصدراً لقضية تحرير المرأة: «تسمح يا باشا أن أقول: إن هذه المواصفات متوفرة في بناية واحدة في بغداد... إنها بناية منارة (مئذنة) سوق الغزل، فهي بناية عالية، ولا يشرف عليها أحد، وإن الفتيات إذا صعدن إلى حوض المنارة لا يراهنَّ أحد» (نفسه). ومع ذلك تحققت مدرسة البنات الرسمية الأولى! إلى جانبها مدرسة «عشيرت مكتبي» الخاصة بأولاد رؤساء العشائر. هكذا تسلمت الدولة الحديثة حال المعارف، ثم زاد على ذلك تضاؤل المدارس إبان الاحتلال البريطاني، من 160 إلى 90 مدرسة بالعراق كافة، بسبب سوء الأحوال (الحصري، مذكراتي). وكان أول وزير للمعارف والصحة (1920) عزَّت باشا الكركوكي، وبعده (1921) محمد مهدي بحر العلوم. وبعد الانفصال عن الصحة توزرها عبد الكريم الجزائري، أما عبد المهدي المنتفكي فكان الوزير العاشر (تاريخ الوزارات)، وليس الأول مثلما جاء في جريدة «المدى» العراقية ضمن ما استهلت به الجريدة لقاءً أجرته مع نجله. ومع أن وزراء تلك المرحلة ليسوا أهل اختصاص، ومنهم مَنْ تقف حدود معرفته عند كتابة وقراءة اسمه، إلا أنهم أنجزوا تطوراً مذهلا في المعارف، وذلك لاعتمادهم على أهل الاختصاص، وليست لديهم أيديولوجيا حزبية يفرضونها، أو تعصب ديني ومذهبي يمررونه في المناهج المدرسية، ماعدا فترة المد النازي، وتسليم المعارف إلى متعصب قومي. نقرأ في سيرة وزير المعارف الحالي، صاحب شهادتي دكتوراه، في علوم القرآن، وفلسفة الفكر الإسلامي (من دون تحديد)! وقد حاضر 16 عاماً في الجامعات، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية (من دون ذِكِر أسماء الجامعات)، وهو كاتب وشاعر ومحاضر، وله مئات المقالات في الصحف والمجلات العربية، ورئيس تحرير صحيفة «المنتدى العراقي» (عن موقع الوزارة الرسمي)، ولا تذكر السيرة واحدة من تلك المجلات العربية، وما المنتدى إلا نشرة لا أكثر! وهو الوزير الذي أذاعت شهرته قبل عامٍ (26/6/ 2008) حادثة إطلاق نار حمايته على الطلبة، لاحتجاجهم بإشهار دفاترهم وأقلامهم، فعُدَّت بنادقَ ومسدسات! وسُمع في ندوة، يفتخر بتعيين مئات الدعاة الدينيين بالمدارس. ذلك ما لم يخطر على بال أسلافه من وزراء «المعارف»: هبة الدين الشهرستاني (ت 1967)، ومحمد رضا الشبيبي (ت 1965)، وغيرهما من أهل الدين، وأصحاب العمائم، والكشيدة، والعِقال. على أية حال، ما يهمنا هو أمر الوزارة، فصلاحها وخرابها يعني صلاح وخراب البلاد. ولنقف أمام جزء يسير من المناهج المدرسية المعتمدة حالياً، وفي يدي منهجا «الرياضيات» للصف الأول المتوسط، و«التربية الإسلامية» للسادس الثانوي. تضمن منهج الرياضيات فصل «تطبيقات الكسور»، وأمثلتها آيات قرآنية، في الزكاة والصدقات. وبعد التفسير والشرح -لاحظوا في درس الرياضيات- يأتي استخراج الأسهم عبر معادلات رياضية. بعدها تأتي الآيات الخاصة بالإرث، ويستخرج منها نصيب الولد، ونصيب البنت، ونسبة الولد إلى البنت: اثنين إلى واحد. وأرى ورود ذلك المثال بالذات، مقصوداً لقمع الصوت النسائي، في البرلمان وبقية المؤسسات. أما منهج «التربية الإسلامية» فتضمن فصله الثالث «نظرية عامة للنظام الاقتصادي في الإسلام»، للسيد محمد باقر الصدر (أعدم 1980)، ومن كتابه «اقتصادنا»، ثم التعريف بسيرة مؤلف الكتاب السياسية. وهنا نسأل هل هو عناد لترسيخ الحالة المذهبية، ومحاولة استغلال المكانة والوظيفة لتكريس الحزبية؟! لأن السيد الصدر مُقدم على أنه مؤسس ومفكر حزب «الدعوة»، فهل المطلوب من السُنَّة الإتيان بسيرة وفكر الشيخ عبد العزيز البدري (أُعدم 1969) مثلا! وكأن العراق لم تكفه آلام المحاصصة والمذهبية! إضافة إلى ذلك فإن المنهج «تربية إسلامية» وليس اقتصاداً! مع علمنا أن هناك مادة دينية أخرى تسمى «التفسير». فكم سيتكرس الخلاف، في أذهان النشء، لاختلاف مدارس التفسير. وماذا يتعلم الطلبة غير الدين، فهو الرياضيات وهو التربية، وهو مادة الدين! لم يبق سوى إعلان الدولة الدينية رسمياً، فعلام هذه المواربة! وأسوأ الدكتاتوريات هي الدولة الدينية، على حد الشيخين: الكواكبي (ت 1902) في «طبائع الاستبداد» والنائيني (ت 1936) في «تنبيه الأمة...». لا أعتقد أن الصدر سيسعد بتلك الدعاية الحزبية باسمه، فالنتيجة، مثلما اتضح بعد سقوط حاجز الخوف السابق، أن كفرت الأجيال بالأناشيد والصور، ليحل محلها التمرد، وكأنه ثأر من تلك الجبرية، وهذا ما سيسفر عمَّا تحشو به أدمغة الجيل الحالي، وما أبخس المكافأة لباقر الصدر! أضع أمام البقية الباقية من المخلصين التنويريين، هذا المشهد المأساوي، نتيجة اختيارات المسؤولين لهذه الوزارة: أن عادت طفلة (الأول الابتدائي) مرعوبة لذويها، بعد تهديد معلمتها لتلميذات الصف: «التي لا تتحجب ستنهش رأسها الحيات، وتلدغها العقارب في قبرها»! وللعلم، وزارة المعارف من حصة كتلة من كتل «الدعوة» والائتلاف، ومنها "التجارة" الموقوف وزيرها بتهمة الفساد، وكافح رئيسها في البرلمان لتثبيت عقوبة قطع اليد، فنافح ضده صاحب عِمامة محتجاً بأن الدنيا قد تبدلت! وفي الدين فسحة. فأي تعليم وأية تربية! ومن أحوال وزارتهما بالذات «أرى العراق طويل الليل...»! رشيد الخيُّون r_alkhayoun@hotmail.com