في البداية يجب أن نعترف بأننا لا نملك "كرة كريستال" لننجم أو نكشف عن الغيب، فللتنجيم أهله ومتخصصوه ومشعوذوه، كما أننا لا نتوقع أو نتنبأ بشيء في علم الغيب، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن ما نسعى إلى استقرائه هو ما تكشف عنه الحقائق على أرض الواقع التي من المؤكد أنها ستقود إلى نتيجة حتمية ومحددة إذا تُركت الأمور على عواهنها انطلاقاً من وضعها الراهن وما يحيط بها من ظروف ستؤثر عليها في المستقبل القريب، في إطار ما تعكسه البيئتان الإقليمية والدولية من تدخلات وما تفرضه من تحالفات يصعب الفكاك منها. كما أننا غير متشائمين أو متفائلين ولا ننظر إلى النصف الفارغ من الكوب، بل نحاول أن نرى ما في أعماق الجزء المملوء منه لنفهم خباياه وتوجهاته، ونكشف عن الحقائق المستترة وراء الدعاوى الزائفة من طلب حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي أو الاستقلال التام أو الموت الزؤام. أما عن عام 2011 تحديداً فنجد أن هناك أحداثاً عدة مؤجلة إلى هذا التاريخ، ليس أقلها استفتاء منظمة الأمم "غير المتحدة" في جنوب السودان حول تقرير مصيره، أو مستقبل أكراد العراق وكركوك بل مستقبل العراق كله بعد رحيل القوات الأميركية، أو اليمن الذي تنذر الأحداث المتصاعدة فيه بأن حسم الأمور بات في أيدٍ أخرى ولم يعد حكراً على حكومته، لذلك فهو يواجه إما خطر الفوضى والانهيار وإما التقسيم والانفصال، وإما التوصل إلى اتفاق بين العشائر لاقتسام مناطق النفوذ، أو ما ستسفر عنه نتائج الصراع الدائر في كل من لبنان سياسياً، وأفغانستان وباكستان عسكرياً، والحلول المتاحة لحسم هذه الصراعات إذا لم يكن التقسيم هو حلها المثالي من وجهة نظر المتصارعين. أما عن طبيعة التقسيم أو الانقسام؛ فالهدف منه إقامة دويلات طائفية وعرقية ومذهبية وعشائرية، تجعل من السهل رسم حدود جديدة لممارسة النفوذ وفرض المصالح، وتعجل بعملية السيطرة الخارجية عليها إما عن طريق الدول التي مهدت لها طريق الانفصال، وإما عن طريق قوى من مصلحتها الاستراتيجية تفتيت هذه الكيانات، وإما من خلال قوى كبرى ترى أن هذا التقسيم يضع حداً للصراعات الدائرة ويسهل من عملية إعادة اقتسام مناطق النفوذ على المستويين الإقليمي أو الدولي. وإذا كان الاستعمار القديم، خاصة البريطاني والفرنسي، قد أوقع منطقة الشرق الأوسط بأسرها في فخ صراعات الحدود وتداعياته الكارثية المستمرة حتى اليوم، فإن الاستعمار الجديد الذي يعمل عن بعد بـ"الريموت كنترول" عن طريق تشجيع الحركات الانفصالية بدعاوى الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والاضطهاد الديني أو العرقي، أو الحرب بالوكالة بدعم وتسليح الميليشيات الانفصالية... سوف يضع المنطقة على فوهة بركان الانقسامات ومجازر التقسيم المتنوعة لتغرق في همومها ولا تقوم لها قائمة بعد ذلك. أما من أتى عليهم الدور لدخول هذه المجازر فهم بالترتيب: السودان والصومال والعراق واليمن وأفغانستان وباكستان ولبنان، وقد يؤدي ذلك إلى تفكك دول أخرى إما بالعدوى وإما بزرع فيروس انقسامي من الخارج. فالسودان على موعد خلال عام 2011 مع استفتاء الجنوب حول مصيره. وفي ظل الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي يمر بها السودان والتي قد تستمر لأعوام عدة مقبلة، من المرجّح أن يطالب الجنوب بالانفصال أو على الأقل حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي، وكلها مسميات سوف تنعكس سلباً على تماسك اللحمة السودانية، لذلك يتوقع انفصال "دارفور" التي قد تنضم إلى تشاد أو تعلن استقلالها. ومن العوامل المرجّحة لهذا الاحتمال هو الدعم الخارجي، خاصة من الولايات المتحدة لجنوب السودان، في التحرر من قبضة الإسلاميين في الشمال. ولا يخفى على أحد الدور الإثيوبي في هذا الأمر، في ظل ضعف الحكومة المركزية السودانية عن تكريس المواطنة ودعم الهوية. أما الصومال الذي يقدّر عدد سكانه بنحو 11 مليون نسمة جميعهم يدينون بدين واحد ويتقاسمون لغة واحدة وينتمون إلى عرق واحد، بل إن همومهم واحدة، فإنهم ينقسمون إلى عشائر عديدة ومتفرعة تبحث كل منها عن مصالحها الخاصة على حساب الصومال، لذا فهي تبدّل ولاءها وفق هذه المصالح وشيوخها هم أصحاب الكلمة الفصل في ذلك، ومن ثم سيستمر اقتتالهم الذي بدأ عام 1991 فور إطاحة الرئيس سياد بري الذي ظل يحكم الصومال ثلاثين عاماً. ومن مصلحة حركة "شباب المجاهدين" و"شيوخ المقاتلين" وأمراء الحرب وتجار السلاح وقادة الإرهاب بزعامة "القاعدة" وقراصنة البحر والبر؛ أن تستمر الفوضى وحالة عدم الاستقرار في الصومال، لذلك فهم يؤلبون زعماء العشائر على بعضهم بعضاً، لكن ربما يجدون أنفسهم بعد عامين من الآن قد تكبدوا الحد الأقصى من الخسائر المادية والبشرية دون طائل؛ فضلا عن تراجع عائدات القرصنة نتيجة الجهود الدولية المتنامية لمواجهتها، لذا فإنه سيجري اقتسام الصومال بين زعماء العشائر، ربما لأخذ هدنة يجري استئناف القتال بعدها. أما في العراق فقد وجد زعماء الأكراد أنفسهم، سواء في الحكومة المحلية أو في الحكومة المركزية، دون الحماية التي وفرها لهم الاحتلال الأميركي خلال السنوات الست الماضية، إذ سيفقدونها تماماً بحلول عام 2011، لذا فإن عليهم التفكير في الحل؛ وهو إعلان الاستقلال وإما الاستمرار في الحكم الذاتي في ظل حكم كونفيدرالي، وهو أمر تسعى قوى عراقية أخرى، خاصة الشيعة في الجنوب، إلى تكريسه. وإذا ما أخذنا بالاعتبار حديث الأمين العام لـ"هيئة علماء المسلمين" في العراق، الشيخ حارث الضاري، ودعوته إلى تشكيل حكومة انتقالية تعيد كتابة الدستور بحيث يمثل كل العراقيين، واعترافه بعمق التمدد الإيراني في النسيج العراقي بهدف إضعافه وتفتيته، فسنجد أنفسنا في مواجهة تقسيم حتمي، طائفي وعرقي، في العراق. أما الوضع الراهن في اليمن فلا يمثل ظاهرة شاذة عن الحال المتدهور في كثير من الدول العربية المجاورة، حيث باتت الوحدة اليمنية معرضة لخطر داهم؛ فمنحنى تدهور الأمور من منظور وحدوي في جنوب اليمن منحنى صاعد عبر الزمن، في ظل ضعف المناعة الداخلية تجاه التأثير الخارجي، الأمر الذي يزيد من حدته نشاط "القاعدة" الإرهابي في اليمن، وتمرد الحوثيين في صعدة، والاحتقان السياسي الذي تزيده مطالب بعض السياسيين اليمنيين بالانفصال وجمع الأموال لدعم الحركات الانفصالية، وتنامي الإحساس بالتميز بين أهل الجنوب وشعورهم بعدم الانتماء إلى باقي تركيبة الشعب اليمني. فهل سيؤول مصير اليمن إلى التقسيم إلى ثلاث دويلات، أم التوصل إلى نظام كونفيدرالي، أم يظل الوضع على ما هو عليه؟ يبدو أن انفجار الانقسام تزداد احتمالاته يوماً بعد الآخر، وأن ما سيحدث في دارفور عام 2011، على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، ربما يكون هو التوقيت المحتمل لهذا الانفجار. أما لبنان فإن الطائفية المتغلغلة في بنيانه الاجتماعي، وتكريسها في داخل النظام السياسي للدولة، وانتشار الميليشيات ذات الأجندات الخاصة، والتدخل الخارجي، وكثرة الاتفاقات لحل عدم الاتفاق... زرع بذور الشك في الجميع تجاه الجميع، فغابت الدولة اللبنانية وتعطلت مصالح مواطنيها، ومن ثم يكون الحل الأخير في قيام كنتونات طائفية، تدافع عنها الميليشيات. وفي باكستان بدأت "طالبان" الباكستانية تدق أبواب إسلام آباد، والحالة لا تختلف كثيراً في أفغانستان، فإذا أخذنا في الاعتبار دور "القاعدة" والجماعات الإسلامية المتطرفة في كلا البلدين، وتطور الأحداث منذ سبتمبر 2001، سنجد أن الاتجاه العام يكرس التقسيم والانقسام، ولن يكون هناك مجال لتحكيم العقل في مواجهة منطق السلاح. لكن ما هي السمات التي تجمع بين الدول المعرَّضة للتقسيم؟ نجد أنها كثيرة وتشمل: انتشار الفقر، وتراجع مستوى المعيشة، وانتشار الفساد، وضياع هيبة الدولة وغياب مؤسساتها الفاعلة، وافتقاد المواطنة، وتكريس المصالح الضيقة على حساب المصلحة العليا للدولة، واستباحة الأيدي الخارجية للشؤون الداخلية لهذه الدول، وانتشار التطرف الديني ووجود السلاح في أيدي ميليشيات يتلاعب بها أصحاب المصالح الحقيقية، واعتبار العنف والإرهاب آليات لتحقيق الأهداف السياسية للدولة. دول كثيرة في المنطقة باتت بحاجة إلى مصالحة وطنية حقيقية تمتد من باكستان مروراً بأفغانستان وصولا إلى العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال واليمن والبقية تأتي، إلا أن عدم وجود مصلحة عليا يتفق عليها الجميع وتعلو على المصالح الخاصة من جانب، والعلاقة المعقدة بين الداخل والقوى الخارجية من جانب آخر، تحول دون جدية التوصل إلى مصالحة حقيقية... وهنا يكون التقسيم والانقسام هو موعدنا في 2011.