في خطاب مهم ألقاه منذ فترة قريبة، وبعد مرور عدة شهور على بداية الأزمة المالية الحالية التي ضربت العالم، وضع "بن برنانكي" رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، المسؤولية الأولية عن حدوث تلك الكارثة على"الزيادة الحادة في درجة تعقيد المنتجات المالية المقدمة للمستهلكين". يجب أن نشعر بالامتنان - على الأقل لأن مسؤولا اقتصاديا ًعلى هذا القدر من الأهمية مثل"برنانكي" قد لفت انتباه الرأي العام أخيراً إلى الدور الذي لعبه التعقيد الاقتصادي المتصاعد في وقوع تلك الأزمة، غير أن ما يؤسف له -مع ذلك - أن هذا الوصف قد جاء متأخراً، وأن "برنانكي" لم يعطه ما يستحق من أهمية. ما أود التركيز عليه، بداية، هو أن مشكلة التعقيد - أو التعقيد البالغ في الحقيقة - لا تقتصر على المنتجات المالية المقدمة للمستهلكين. فالمستهلكون ليسوا هم فقط الذين يحتاجون إلى المساعدة، وإنما يحتاج إلى تلك المساعدة أيضاً الوكالات التي تتولى عملية تقويم السندات للمستثمرين، ولكنها ليست قادرة على مواجهة التعقيد المتزايد، وهو ما ينطبق أيضاً على العديد من بائعي وول ستريت "المتجولين" - إذا جاز لنا القول - الذين باعوا الأدوات الاستثمارية التي لم يكونوا قادرين على فهمها. ولكي نقيّم ما يحدث اليوم، ونوفّه ما يستحق من أهمية، قد يكون من المفيد أن نعود بذاكرتنا إلى عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عندما خاض فريقان من الاقتصاديين معركة علنية حول طبيعة "التعقيد"، ودوره. فمنظرو الاقتصاد التقليديون، قارنوا سلوك الاقتصادات، بسلوك الكون ذاته أو سلوك أجزاء منه، والذين قاموا بتصويره على أساس أنه مغلق، وخطّي، ومتوازن - من حيث الجوهر. في المقابل - وعلى ضوء النظريات العلمية الحديثة - ظهر علماء اقتصاد آخرون ممن قاموا بمعارضة التركيز المبالغ فيه على الاستقرار والثبات، كما قاموا من واقع متابعتهم لأعمال فيزيائيين مثل "إيليا بريجوجين"، بوصف الاقتصادات بأنها يمكن أن تكون متسمة بأي شيء إلا التوازن. فهم لم ينظروا إلى تلك الاقتصادات على أنها مجرد شيء معقد، وإنما كشيء يتحرك - في الواقع العملي -تجاه مستويات تزداد ارتفاعاً باستمرار من التعقيد - تماما مثل مفهومهم عن الكون. بيد أن اقتصاديي اليوم ليسوا في حاجة لأن ينظروا إلى شيء كبير وضخم ولا متناهٍ مثل الكون كي يتعرفوا على ذلك، ففي الدول التي تتقدم فيما وراء العصر الصناعي، فإن الاقتصادات ليست هي وحدها الشيء الذي يزداد تعقيداً باستمرار، وإنما ينطبق هذا أيضا على العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وكلها أمور تؤثر على نحو جذري، ولافكاك منه، على الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد. علاوة على ذلك، نجد أن التعقيدات المتنامية في الدول المتقدمة، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، لم تكن سرا من الأسرار الكبيرة، كما يتبين لنا من خلال تلك الطائفة من الاقتباسات التي نوردها تاليا: الاقتباس الأول: "إن أي جهاز تنظيمي نشط يستطيع أن ينتج شبكة من اللوائح التي تزداد استعصاء على الاختراق بشكل دائم- 45 ألف صفحة من اللوائح في العام الواحد".(1980). الاقتباس الثاني:"عندما نترك العصر الصناعي وراءنا، فإننا نصبح مجتمعاً أكثر تنوعاً... وهذا التنوع يجلب معه المزيد من التعقيد، الذي يعني بدوره أن المشروعات التجارية ستكون بحاجة إلى قدر يتزايد باستمرار من البيانات، والمعلومات، والمعرفة الفنية بطرائق التشغيل".(1990) الاقتباس الثالث:"هل لاحظ أحد إلى أي درجة ازدادت الرياضة تعقيداً؟... فما يحدث في الوقت الراهن هو أننا نرى المزيد من الفرق، والمزيد من المسابقات الدورية، والمزيد من العلاقات المتعددة الأوجه بين تلك الفرق والمسابقات. فضلا عن ذلك، تجد الرياضة العالمية نفسها متداخلة في كل شيء بدءاً من قوانين العقاقير الطبية، والتلفزيون، والسياسات، واتحادات العمال، والصراع على أساس الجنس، والتخطيط العمراني، والملكية الفكرية". (2006). الاقتباس الرابع: "عقدة العقد" إن كل نظام من أنظمة الثروة الكبرى في العالم وهي باختصار، النظام الزراعي، والنظام الصناعي، والنظام القائم على المعرفة، تختلف من حيث مستويات تعقيدها. ونحن اليوم نواجه قفزة تاريخية شاملة نحو اقتصاد أكبر حجما وأكثر تعقيدا من الناحية الاجتماعية". (2006). الاقتباس الرابع:"التعقيد على المستوى الشخصي يكون في العادة مضخما لأقصى حد على المستوى العملي، وعلى مستوى التمويل، والاقتصاد، والمجتمع. بيل جيتس يتحدث عما يطلق عليه (التعقيد المتزايد بمعدلات فلكية) وفي ألمانيا يتحدث مجلس الإشراف المالي الفيدرالي عن (التعقيد المتزايد في المجال المصرفي).(2006). هذه الاقتباسات مستمدة من صفحات كتاب كتبته أنا وزوجتي، ولكن يمكن اقتباس مثلها بنفس القدر من السهولة من مصادر أخرى لا حصر لها ولا عد. إذا ما كان الاقتصاديون اليوم لا يزالون يكتشفون المزيد من التعقيدات، فربما يكون من الأفضل لنا في مثل هذه الحالة أن نريح أنفسنا ونحول موضوع دراسة الاقتصاد برمته إلى من لديه القدرة على متابعة التعقيدات، التي ستستمر في التناسل على ما يبدو إلى أمد يصعب تحديده من موقعنا الراهن في هذا العالم. الفين توفلر كاتب ومفكر أميركي متخصص في شؤون المعلومات والمستقبليات ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"