ربما يعتقد بعضهم أننا نتسرع بالحديث عن وجود "مبدأ" أو "عقيدة" للرئيس الأميركي، باراك حسين أوباما، للشرق الأوسط، خاصة لمنطقة الخليج، حيث لم يمر على وجوده في البيت الأبيض أكثر من 88 يوماً حتى الآن، ولكن العبرة بالأفعال والتحركات والمواقف سواء المعلن منها أو المستتر. لقد بات واضحاً وجود تصور محدد للرئيس الأميركي تجاه صياغة مستقبل المنطقة، وقد جرت مياه كثيرة حتى الآن لوضع هذا التصور موضع التنفيذ، وإن كانت لا تزال هناك إجراءات وخطوات أخرى يلزم اتخاذها لتتبلور الصورة برمتها ويتحقق المراد. وعقيدة أوباما ربما تختلف نوعاً ما عن عقائد من سبقوه إلى سدة الحكم في واشنطن، بدءاً بالرئيس أيزنهاور وانتهاءً بالرئيس بوش الصغير، مروراً بنيكسون وكارتر وريجان وبوش الأب وكلينتون. وإن كانت هذه العقيدة أقرب شبهاً لمبدأ نيكسون في الاعتماد على استراتيجية "العمودين المتساندين" وهما إيران الشاه والمملكة العربية السعودية حينها للحفاظ على أمن الخليج. ربما تكون نقطة الانطلاق للرئيس أوباما هي الاتفاقية الأمنية الأميركية -العراقية، التي تسمح بإعادة انتشار القوات الأميركية داخل قواعدها الأربع في العراق ورحيل باقي القوات قبل نهاية عام 2011، وتسليم الملف الأمني للقوات العراقية، دون الاكتراث بتحقيق الهدف الاستراتيجي الأميركي لبوش الصغير بأن يصبح العراق نموذجاً للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط يحتذى به. وبذلك يضرب الرئيس أوباما عصفورين بحجر واحد، فمن جانبٍ سيفي بوعده للأميركيين بخفض الوجود العسكري الأميركي في العراق وعودة معظم القوات إلى الوطن، ومن ثم فك الارتباط بمسمى "الاحتلال الأميركي للعراق"، ومن جانب آخر تتفرغ القوات الأميركية المتبقية في المنطقة في ظل قيادتها المركزية لتأمين المصالح الحيوية الأميركية بالتعاون مع القوى الإقليمية التي ستجري استمالتها واستقطابها. أما الخطوة الثانية على طريق مبدأ أوباما فهي استمالة إيران واستقطابها عن طريق تعظيم الدور الإيراني في المنطقة تمهيداً للاعتراف ببلاد فارس كقوة إقليمية كبرى نزولا عند رغبة ملالي إيران، مقابل الأخذ في الاعتبار المصالح الأميركية، لذلك تصب دعوة أوباما، وهي حقيقية وصادقة، لإقامة حوار مع إيران في هذا الاتجاه، تدعمها دعوته إلى مشاركة طهران في حل المسألة الأفغانية، وكذلك التصريح المباشر بمشاركة أميركية في الحوار الأوروبي مع إيران بشأن برنامجها النووي، مع التوقف تماماً عن أي تصريحات أو خطاب إعلامي أميركي يحمل تهديداً باستخدام القوة ضدها، وجاء هذا كله استثماراً وتتويجاً للحوار السري الأميركي-الإيراني الذي رعته أنقرة على مدى السنوات الخمس الماضية، كما أن إعلان خطة الانسحاب العسكري الأميركي من العراق لم تشترط رفع يد طهران عن بغداد بل إنها لم تلمح إلى ذلك من قريب أو بعيد، في الوقت نفسه نجحت حكومة المالكي في العراق في استبعاد آية الله السيستاني وعزله عن الفتوى في السياسة، وهو أحد المناهضين للتدخل الإيراني في الشأن العراقي، ناهيك عن رفع الحماية الأميركية عن منظمة "مجاهدي خلق" المعارضة سياسياً وعسكرياً للحكم في طهران، ومن ثم ترك مصيرها بيد حكومة المالكي، والتي سرعان ما قررت فرض حصار صارم على "معسكر الأشرف" الذي توجد فيه عناصر المنظمة، وتأكيد أنهم غير مرغوب في وجودهم على أرض العراق، وهي تحركات ذات دلالة للنخبة الحاكمة في طهران يجب عليهم قراءتها بصورة إيجابية. ثم جاءت الخطوة الثالثة في أفغانستان حيث تمت زيادة عدد القوات الأميركية بنحو 17 ألف فرد، وجرى إقناع حلف شمال الأطلسي بزيادة قواته بخمسة آلاف فرد، والعمل على دعم حكم الرئيس الأفغاني كرزاي، وتركيز الجهد العسكري ضد تنظيم "القاعدة" مع توقف الحديث عن "الحرب ضد الإرهاب"، الأمر الذي يفرض ضرورة التعاون القريب مع باكستان لضبط الحدود مع أفغانستان من جانب، وحصار "القاعدة" من الاتجاه الباكستاني من جانب آخر، تمهيداً لعملية حاسمة تقضي على الفلول المتبقية من "القاعدة"، مع مشاركة أوروبية كبيرة، بعد أن أكد لهم أوباما أن العملية الكبرى المقبلة لـ"القاعدة" ستكون في العمق الأوروبي، وسوف يؤدي ذلك كله إلى تأمين حدود بلاد فارس الأفغانية دون أن تتكلف إيران شيئاً، رغم أنها طرف أصيل ومعترف به في حل المسألة الأفغانية. وقد تزامن مع هذه الخطوات تحركان رئيسيان للرئيس الأميركي: الأول في اتجاه تركيا، الجار المباشر لطهران، لإيصال الرسالة إلى ملالي طهران، التي كانت قد رفضت وساطة أنقرة سابقاً، بأن واشنطن جادة في فتح صفحة جديدة مع طهران، وكذلك استمالة أنقرة من خلال الاتفاق على منع "حزب العمال الكردستاني" من تهديد تركيا، وإعلان تأييد الولايات المتحدة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وكل هذا يعني ضمان عودة تركيا إلى أحضان إسرائيل، وأن يكون لها دور في الضغط على إيران لتتجاوب مع مبدأ أوباما في المنطقة، وفي الوقت نفسه يضمن التعاون العسكري التركي في تأمين انسحاب القوات الأميركية من العراق. أما التحرك الثاني فكان في اتجاه المملكة العربية السعودية، فقد حاول أوباما إشراكها في حل الأزمة المالية العالمية أثناء مشاركة الرياض في قمة الدول العشرين الكبرى، وكذلك تأييد مبادرتها العربية للسلام، والاعترف بمكانتها في المنطقة، والتغاضي عن مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، في مقابل الحفاظ على سعر مناسب لبرميل النفط في السوق العالمية، وعدم اعتراض الرياض على مبدأ أوباما في المنطقة عندما يظهر كاملا إلى النور. كما أن الإدارة الأميركية قد عينت ثلاثة مبعوثين لها في كل من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومنطقة الخليج، وأفغانستان، حتى تكون رؤيتها أقرب إلى الواقع ويمكنها التدخل بالقوة الناعمة قبل أن يتفاقم الوضع، وكذلك ليشعر الجميع، سواء بحق أو بغير حق، بمدى جديّة الولايات المتحدة لحل الصراعات المزمنة في المنطقة، كما يسمح بحل كل أزمة بمعزل عن الأخرى ما يدفع سرعة حلها أو تجميدها دون أن تؤثر في الأخرى. من كل ما سبق تتضح عناصر عقيدة أوباما للمنطقة، التي تتمثل في مبدأ نيكسون المعدَّل مع بعض المرتكزات الأخرى، حيث يتم الاعتماد على المثلث "الإيراني-التركي-الوجود العسكري الأميركي غير المباشر" في ضمان أمن المنطقة واستقرارها وسلامها، والقضاء على أي تهديدات مباشرة أو غير مباشرة للمصالح الحيوية المشتركة. وهذه العقيدة تضمن الحد من الاعتماد الأميركي على القوة العسكرية ومنح دور أكبر للقوة الناعمة والحوافز، وتسمح بتفتيت أزمات المنطقة أو تفكيكها تمهيداً لحلها، خاصة أزمة البرنامج النووي الإيراني، حيث إن إجراءات بناء الثقة بين واشنطن وطهران حول مختلف القضايا، والاعتراف بالأخيرة قوة إقليمية كبرى يسمح بحل المسألة النووية الإيرانية. من الواضح أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد حصر التهديد الرئيسي للمصالح الأميركية في المنطقة في تنظيم "القاعدة" والتوجه النووي الإيراني "العسكري" فقط، بعد أن اعترف مع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، بحق إيران في الطاقة النووية السلمية، والحفاظ على أمن إسرائيل، وتحقيق الاستقرار في أفغانستان، والاستعداد لمواجهة احتمالات انفجار الوضع في باكستان. وهذا يقودنا إلى نتيجة مهمة مفادها أن المصالح الاستراتيجية العربية عامة والخليجية خاصة ليست في حسابات أوباما، سواء من ناحية استمرار الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى)، أو من ناحية التهديد الإيراني لأمن المنطقة من خلال الادعاءات المتكررة بتبعية مملكة البحرين لبلاد فارس، أو التهديد باستخدام الخلايا الإيرانية النائمة لكل من تسوِّل له نفسه الحديث عن طهران، أو تمسّك الدستور الإيراني بتصدير الثورة ومساندة المستضعفين في أي مكان حتى ضد حكَّامهم، أو تكريس الخلل في الميزان الاستراتيجي لمصلحة إيران وما يعنيه ذلك من تهديد مستتر لأمن دول المنطقة واستقرارها. لقد آن الأوان لتتوافر الشفافية والمصارحة في تعامل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مع الحليف الأميركي ومواجهته بكل صدق بعدم تجاهل المصالح الحيوية الخليجية عند تعامله مع إيران أو إسرائيل، لأن هذه الدول هي التي ستدفع ثمن أي اتفاقات غير سوية ستجرى في المنطقة.