من يتابع تطور الأحداث في المنطقة العربية على مدى الشهور الثلاثة الماضية، يجد أن حالة الفوضى الإقليمية قد بدأت تتحول إلى حالة من "الانسداد السياسي" الحاد الذي ربما يؤدي في النهاية إلى "ركود استراتيجي" يعقبه انكماش لقوى الواقعية لحساب قوى التطرف والعنف، ونعني بـ"حالة الانسداد" تقلص الخيارات أو ربما انعدام البدائل المتاحة أمام العرب، سواء للفعل أو رد الفعل، تجاه حماية مصالحهم أو فرضها. ولا نقصد بالمصالح هنا مصلحة بعض الحكومات العربية في الاستمرار في الحكم، لأن هذا الأمر أصبح قدراً محتوماً وابتلاءً محسوماً يجب على الشعوب العربية الصبر عليه والرضا به، خاصة أن معظم الجبهات العربية -من معتدلين أو ممانعين أو منبطحين- تعمل من أجل هذه المصلحة. ما نقصده إذن، هو المصالح الاستراتيجية العربية المشتركة تجاه القضايا المصيرية، فالموقف السياسي في المنطقة انتقل من مرحلة الفوضى الإقليمية إلى حالة الانسداد، وسوف تمر سنوات عدة قبل أن يدرك العرب تأثير هذا الوضع بل ربما يتمنون أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، فقد تكرر هذا الأمر كثيراً عبر التاريخ الحديث والمعاصر. لقد تكرر تجاه قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي رفضه العرب حينها، ويتمنون اليوم أن يعود فيقبلون به، وكذلك حال العراق قبل صدام حسين وبعده، ومحاولات بعض الدول العربية امتلاك القدرات النووية ووسائل إطلاقها الاستراتيجية، والتورط المصري في اليمن، ودعم بعض الدول لعناصر "القاعدة" وفكر التطرف والتشدد... لكن هيهات فالتاريخ لا يعود إلى الوراء، وعجلة الزمن مستمرة في الدوران إلى الأمام. لذا نرجو ألا يأتي اليوم الذي نتمنى فيه أن يعود بنا التاريخ إلى السنوات العجاف التي نمر بها الآن، لأن الغد سيأتي بالأسوأ لو ظل الوضع كما هو عليه، فإرهاصات الانسداد السياسي وتداعياته ستكون لها آثار خطيرة على مجمل الأوضاع العربية من حيث المكانة والدور وتحقيق المصالح الاستراتيجية، وما لم نستطع أن نصل إليه اليوم ربما يستحيل أن نحقق منه شيئاً في الغد. فإذا نظرنا من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، ومن لبنان المحتقن إلى الصومال المنقسم وما بينهما من فوضى غير خلاقة، سنجد أن حالة الانسداد السياسي عامة. والوضع برمته يشير إلى أن الدول العربية لا حول لها ولا قوة من أي نوع تستطيع بها أن تتدخل لـ"تسليك" هذا الانسداد في أي اتجاه، وهنا يجب أن ندرك أن هناك فرقاً شاسعاً بين توافر القوة وإرادة استخدامها، والقوة متنوعة بين "ناعمة وصلبة"، ولا ننكر أن العرب يملكون القوة والقدرة على الفعل، ولكن تظل إرادة الاستخدام رهن الاتفاق العربي. وإذا كانت القمم العربية لا تخرج عن كونها احتفالية للتذكير بوجود هذا العرق الإنساني، فإنها لم تصل حتى الآن إلى درجة من الاتفاق على عمل عربي مشترك، ويمكن التنبؤ بما يصدر عن هذه القمم من بيانات تشجب وتدين وتؤيد وتناشد وتوصي، ولا توجد استراتيجية عمل واقعية لمواجهة التحديات المتربصة بنا. وإذا نظرنا إلى القوس الشمالي من الوطن العربي الذي يضم العراق ولبنان وسوريا سنجد أن حالة الانسداد متنوعة، منها "اتفاق" النخب السياسية والاجتماعية على "عدم الاتفاق" على مصالحة وطنية داخل كل دولة تجمع كل الأطراف المتصارعة لتتفق على الحد الأدنى من المصالح الحيوية الوطنية وتتنازل عن مصالحها الضيقة، وتعترف صراحة بالانتماء إلى الدولة أولا، وليس لطائفة أو عرق أو جماعة أو أيديولوجية معينة، الأمر الذي أدى في النهاية إلى حالة من الجمود السياسي، فالكل اتفق على الرفض. أما القوس الغربي القريب الممتد من فلسطين إلى السودان ثم الصومال، فنجده سقط في براثن توجهات ونزاعات وقوى داخلية وخارجية دفعت الجميع إلى حرب أهلية تختلف في صورها وتتفاوت في شدتها من دولة إلى أخرى، إلا أنها جميعاً تسعى إلى أن تقوض أركان الدولة وترفض كافة الحلول لأزماتها السياسية، ومن ثم تضعها في مثالب الانسداد الاستراتيجي بعد أن تطلق صراعات داخلية لا تنتهي فتقضي على الحاضر، وتحيل المستقبل إلى عالم الغيب والشهادة. كما أن الصراع الداخلي بين القوى الوطنية الفلسطينية أفرز انقسامات واستقطابات حادة، داخلية وخارجية أيضاً، أدت إلى فشل التوصل إلى أي مصالحة وطنية حتى الآن، فقاد ذلك إلى انسداد سياسي داخلي، بل ودفع بأقصى اليمين الإسرائيلي إلى سدة الحكم بقيادة نتانياهو ومعه زمرته المتشددة وعلى رأسهم ليبرمان، ليعلن موت عملية السلام الفلسطينية -الإسرائيلية، بعد أن توقفت لمدة تزيد على عقد ونصف من السنوات، ويقرر عدم الالتزام بما تم الاتفاق عليه في مؤتمر "أنابوليس" 2008، والتوسع في الاستيطان في الضفة الغربية، وإغلاق ملف القدس، ولا حديث عن لاجئن فلسطينيين أو عودتهم، بل زاد الطين بلة تهديد عرب 48 بسحب الجنسية الإسرائيلية منهم! إن القضية الفلسطينية قد أصبحت في مواجهة حالة أكثر تشدُّداً من الانسداد السياسي، وبات الحديث عن المبادرة العربية للسلام يندرج في إطار الآمال والأحلام، وسواء جرى سحبها أو تركها فلن يتغير في الأمر شيء، بل إن طريق المقاومة ذاته، الذي يتمسك به البعض، أصبح في مواجهة آلة قتل ليس لديها أي مبادئ أو قيم دولية أو أخلاقية، فهي تستخدم أطفال فلسطين دروعاً لدباباتها، وتبيد كل شيء، لذلك سيكون الثمن فادحاً. وإذا انتقلنا إلى قوس الأزمات الذي يحيط العرب من الشرق، حيث إيران وأفغانستان وباكستان، فسنجده يعاني أيضاً انسداداً استراتيجياً، فلا حلول سياسية تستطيع أن تضع حداً لما يجري، فإيران لا تزال متمسكة بطموحاتها النووية وترفض أي مناقشة لهذا الموضوع، وتضعه خطاً أحمر للأمن القومي الإيراني، لذلك اندفعت بكل قواها وإمكانياتها لتشتبك مع كل الأزمات والقضايا المثارة في المنطقة وتصبح طرفاً مباشراً استطاعت من خلاله منع الاقتراب من ملفها النووي حتى الآن، وتفرض نفسها كقوة إقليمية تسعى إلى التدخل في شؤون منطقة الخليج، وتكرِّس احتلالها للأرض العربية التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة. أما باكستان وأفغانستان فقد أصبحتا ضحية لثلاث قوى متناحرة، هي التطرف والإرهاب، و"طالبان" والقبائل، فضلا عن الصراع السياسي الداخلي الذي جر الدولتين إلى حالة من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية، ودفع بالقوى الخارجية إلى التدخل لحسم الأمر لصالح الدولة، لكن الأمر انتهى إلى انسداد في الحل السياسي وبات الأمر برمته رهن تجار السلاح وأمراء الحرب. ورغم التحديات والتهديدات التي يفرضها قوس الأزمات الشرقي فإن العرب لا حول لهم ولا قوة، وفي غيبوبة المصالحة والتعايش مع الأمر الواقع، ولم يتخذوا أي إجراء أو يتفقوا على أي استراتيجية لمواجهة تداعيات هذا القوس، لذا فإن حالة الانسداد الاستراتيجي هنا مزدوجة، فدول القوس ذاتها تواجه هذه الحالة، والعرب من جانبهم يعيشون هذه الحالة. إن على العرب أن يدركوا أن حالة الانسداد هذه لن تنفرج من دون حراك استراتيجي مؤثر وفعال، فعليهم أن يتفقوا بسرعة على الأولويات وأن يكون العمل في اتجاهين، أحدهما خارجي لصياغة استراتيجية واضحة ومحددة وعملية لمواجهة الانسداد السياسي في القضايا المصيرية، والاتجاه الثاني داخلي للاتفاق على أسس واقعية وعملية تحول المصافحة إلى مصالحة لـ"تسليك" الانسداد الداخلي، وأن تكون الحكومات العربية على يقين تام بأن الارتكان إلى السكون والصمت في مواجهة الانسداد سيكون ثمنه فادحاً. إن الوضع العربي الراهن يذكرنا بالمسرحية المصرية الشهيرة التي عرضت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي "مدرسة المشاغبين"، عندما وصف عادل إمام عدم مبالاة التلاميذ بالحركات والأفعال الغريبة وغير المنطقية التي أتى بها المدرس في أثناء الفصل، بتعبير: "وإحنا قاعدين"، وكررها مراراً وفق أفعال المدرس، لذلك فإن الممثلين والكومبارس من دول العالم والمخرجين من القوى الكبرى يتحركون ويناورون ويمثلون وفق مصالحهم، و"إحنا قاعدين"، وجاءت الفوضى الأمنية والمصائب السياسية والاقتصادية فرادى وجماعات.. و"إحنا قاعدين"، ثم حدث الانسداد السياسي... و"إحنا قاعدين"، فإلى متى سنظل قاعدين؟!