في خريف عام 2001، وقع الدكتور "ديفيد هيلي" الطبيب الإنجليزي الشهير من جامعة "ويلز" عقداً مع جامعة تورونتو الكندية العريقة، ينص على أن ينتقل الدكتور "هيلي" للعمل رئيساً لقسم اضطرابات المزاج بمستشفى كلارك في تورونتو. الدكتور هيلي -لمن لم يسمع عنه - اشتهر بأنه أكثر من هاجم الإفراط في استعمال دواء الاكتئاب الشهير البروزاك "Prozac". وهو المنتج الأهم في عقد التسعينيات لشركة الدواء الأميركية العملاقة "Eli Lilly". لم ينتقل الدكتور "هيلي" إلى تورونتو، بل فوجئ بإلغاء عقده مع الجامعة العريقة. تسرب خبر مفاده أن عملاق صناعة الدواء "ليلي" قدمت تبرعاً -غير مشروط - قيمته مليون دولار ووعود أخرى لجامعة تورونتو. تردد فيما بعد أن التبرع كان مشروطاً جداً، واستهدف إلغاء عقد "هيلي". كتب رئيس تحرير كبرى الصحف الكندية "جلوب آند ميل" افتتاحية تعرض فيها إلى هذه الفضيحة الأكاديمية، ورفع الدكتور "هيلي" قضية ضد الجامعة العريقة، وكذلك فعلت جمعيات أصدقاء المرضى، وانتهت القضية خارج المحكمة، بعد أن وافقت الجامعة على رد التبرع الى الشركة، وتقديم اعتذار للرأي العام الكندي. ما علاقة هذه الفضيحة بموضوع اليوم؟ تذكرت هذه الفضيحة التي تمثل حالة تقليدية لنفوذ المؤسسات الاقتصادية حتى داخل الأوساط العلمية والأكاديمية العريقة ، تذكرت ذلك وأنا أشاهد هذا السيل من لقاءات مع مشايخ دين في برامج الفضائيات الاقتصادية، استمعت إلى أحدهم، وهو يُزكي البطاقة الائتمانية لأحد البنوك الإسلامية الحديثة في السعودية مؤكداً حِلها حيث أنه -كما يروي -عضو في اللجنة الشرعية للبنك، هذا النوع من الطرح التسويقي، كان لشيخ دين عرفه الناس بتفسيره الغريب لأحداث تسونامي، حتى أن "ريتشارد داوكينس" من جامعة أكسفورد، اعتبر تصريح الشيخ أقبح كلام صدر باسم الدين لعام 2005 . أكثر من ذلك تُفاجأ أحياناً أن أعلاماً كباراً من أصحاب النفوذ الرسمي والشعبي هم أعضاء في اللجان الشرعية للبنوك. خذ مثلا أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهم نظرياً أعلى مرجعية رسمية في فهم الشريعة، وهم أصحاب القول الفصل في فهم مراد الشارع. وإليهم يرجع عادة الجهازالتنفيذي (الحكومة) والجهاز التشريعي (مجلس الشورى)، قبل سن القوانين للتأكد من شرعيتها. تفاجأ أن بعضهم أعضاء في اللجان الشرعية للبنوك، ولا يجد أحدهم حرجاً في ذلك، بل إن أحدهم لايجد حرجاً في تزكية منتج اقتصادي من بنك معين، هو عضو في لجنته الشرعية، وربما تسلح بكل أدواته الفقهية، ليبين أنه أكثر حِلا وأزكى وأنقى من المنتَج الفلاني، الذي يقدمه البنك الآخر، الذي هو ليس عضواً في لجنته الشرعية. المشكلة هنا في زعمي تتلخص في التالي: 1) أن هناك تضارباً في المصالح، وتضارب المصالح يعني كل حالة يكون فيها الإنسان موضع الثقة عادة، مثل العالم أو الطبيب أو السياسي أو المدير التنفيذي في وضعية تنافسية بين قراره المهني ومصلحته الشخصية. وليس من الصعب هنا تصور أن عضو اللجنة الشرعية، هو في حالة تنافسية بين حرفيته كعالم دين يفسر مراد الشارع الحكيم وبين مصلحته الشخصية بحكم أنه يكُافأ مادياً من البنك. 2) هناك استخدام سيئ للنفوذ الرسمي: إذ لو تأملنا أعضاء أي لجنة شرعية في أي بنك محلي لوجدنا فيها أعضاء، هم في الأصل علماء دين يحملون صبغة ومكانة رسمية (مثل أعضاء هيئة كبار العلماء)، ولأن المكانة الرسمية لمثل أعضاء الهيئة، هي عادة تحمل بعداً تشريعياً كما أن اللجان الشرعية في البنوك، هي أيضا تحمل ذات البعد. وهذا مثال واضح للاستخدام السيئ للنفوذ الرسمي للمصلحة الشخصية. وأزعم أنه لايوجد قانون في أي بلد يسمح بمثل هذا التجاوز. 3 ) هناك سوء استخدام للسطوة الروحية، فليس نادراً أن تتقصد البنوك استخدام البعد الروحي والرصيد الشعبي الذي تتمتع به بعض القيادات الدينية الشعبية في لجانها الشرعية، وليس سراً أن هذا يتم لأهداف تسويقية، فالدعاة والوعاظ ليسوا بالضرورة أفهم الناس بأحكام المال في الاسلام. كما أن العرف الإنساني في كل الديانات الكبرى، لايتساهل عادة مع استخدام هذا النفوذ الروحي المكتسب عادة بأساليب وعظية سلاحه الدين لمنفعة شخصية. أما في حالتنا هنا، فتجد أحياناً خطيب جامع أو واعظا شهيرا يكتسب رصيده الاجتماعي من المؤسسة الدينية كالمسجد أو المادة الدينية (الوعظ) ليجنيه لمصالح شخصية. 4) هناك تجاهل لكل قوانين تضارب المصالح، إذ لايوجد كشف وشفافية في الإفصاح من قبل المشايخ عن طبيعة وحجم المردود المادي. اللجان الشرعية قائمة منذ أكثر من ربع قرن، ورغم هذه الفترة لم تتطور من داخلها قوانين تحكم البعد الاخلاقي لنشاطاتها (Code of Ethics)، رغم أن أساسيات التنظير لهذا البعد موجودة في الأعراف الإسلامية صح في الحديث "فهلا جلست في بيت أمك..." وبعض الفقهاء يحرمون أن ينكح القاضي من حكم عليها بالطلاق من زوجها لذات العلة. أضف إلى ذلك أن كل هذه الممارسات سائبة، ولا يوجد طرف ثالث لمراقبة هذه العلاقة كما هي التقاليد العالمية في قضايا تضارب المصالح. ليس عيباً أن تقنن هذه العلاقة، فكل المهن تلجأ إلى سن القوانين التي تحكم علاقة أفرادها بالمؤسسات الاقتصادية. وليست منقصة أن تنشأ وتتكرس هذه التقاليد بين طلبة العلم، الذين هم أولى الناس بها، إذ ليس من الحكمة تأخير سن القوانين انتظاراً للفضائح. أحد الأصدقاء، عندما كنا نناقش هذا القضية- نظر للموضوع من جهة أخرى، حيث لاحظ أن الفتاوى الاقتصادية المعاصرة، هي المجال الأخصب للتطوير الفقهي، وهو يعزو ذلك إلى وجود الراعي والمتعهد بهذه الدراسات. وأكثر من ذلك، فهي المجال الأبرز، الذي نشاهد فيه جرأة وتسارعاً في تجاوز الفتاوى التقليدية، كما في فتاوي البنوك والتأمين. ويتساءل صاحبي لو أن المؤسسات الاقتصادية الأخرى شكلت لجاناً شرعية تُكرس نشاطها لدراسة القضايا المتعلقة بنشاطها التجاري. مثال ذلك لو أن وكالات السيارات شكلت لجاناً شرعية، فهل كان هذا سيؤدي إلى حسم موضوع قيادة المرأة للسيارة؟