يوم الثلاثاء الماضي، رفعت وزارة العدل الأميركية القيد المفروض على مجموعة من المذكرات الداخلية التي كانت قد صدرت في عامي 2001 و2002 عن محامين بمكتب الاستشارات القانونية التابع للبيت الأبيض. وتبين أن من خط المسودات الأصلية لتلك المذكرات هو المحامي "جون يو". بقي أن نقول إن المذكرات هذه هي التي وضعت الأسس القانونية لنظرية جديدة في توصيف صلاحيات وسلطات الرئيس، منحتها من السعة والإطلاق ما يصل بالرئيس الأميركي إلى مصاف الطاغية أو الديكتاتور. وتنص المذكرات المشار إليها إجمالاً على أنه وفي حال نشر جنود الجيش الأميركي بهدف مواجهة وملاحقة إرهابيين مشتبه بهم داخل حدود الولايات المتحدة الأميركية، فلن يكون في وسع التعديل الرابع في نص الدستور الأميركي، حماية المواطنين من إجراءات التفتيش والاعتقال والتوقيف التي سيخضعون لها حتماً. يذكر أن التعديل الرابع في الدستور الأميركي ينص صراحة على منع إجراءات التفتيش والاعتقال والتوقيف غير المبررة بحق المواطنين. والأخطر من ذلك ما نصت عليه المذكرات الداخلية هذه على أنه يظل ممكناً تصنيف المواطنين وغير المواطنين على أنهم "مقاتلون أعداء غير شرعيين" متى ما توصلت المعلومات السرية التي تجمع عنهم إلى هذا الاستنتاج. وما إن يتم توقيف أو اعتقال أحدهم على هذا الأساس، حتى يمكن أن تستمر فترة احتجازهم رهن التوقيف أو الاعتقال إلى أجل غير مسمى، ودون أن توجه إليهم أي اتهامات محددة بالضرورة. بل يمكن إخضاعهم لممارسات التعذيب وأساليب التحقيق القاسية معهم، ودون أن يكون لهم حق الاستشارة أو المساعدة القانونية التي تمكنهم من الدفع القانوني ضد إجراء الاعتقال أو إساءة المعاملة. من ناحيتي، أعلم جيداً أنه ليس ثمة جديد في هذه المعلومات. فقد كان كافياً ما تسرب منها على امتداد السنوات الثماني الماضية من إدارة بوش، أن يكشف للجميع أن تلك الإدارة سعت عملياً لتوسيع السلطات التنفيذية إلى مدى لا حدود له، وأن الهدف وراء إطلاق سلطات الجهاز التنفيذي هو مراقبة واعتقال واستخدام القوة ضد الأفراد أينما وجدوا على نطاق العالم كله باسم ذريعة "الحرب على الإرهاب". غير أن ما يصيب المرء بصدمة قوية يصعب احتمالها هو أن يرى المرء بأم عينيه كل هذا وهو مخطوط على الورق باللونين الأبيض والأسود في الوثائق الرسمية لدولة تعتبر نفسها قلعة للحريات والديمقراطية، ونموذجاً ينبغي للعالم كله أن يحذو حذوه! وعلى أية حال، فليس هناك ما يثير الغضب والاستفزاز أكثر من سوء الحجج القانونية التي استندت عليها المذكرات هذه. ذلك أنها تنسخ أحكاماً سابقة صادرة عن المحكمة العليا، وتتجاهل سوابق قضائية قانونية أساسية، إلى جانب الثغرات المنطقية المهولة التي حوتها نصوصها. ولكي يتقبل المرء ما جاء في هذه المذكرات من هراءات "مكتب الاستشارات القانونية" التابع للبيت الأبيض، فإن عليه أن يفترض خطأً فادحاً ارتكبه كل من الأبوين المؤسسين جورج واشنطن وتوماس جيفرسون بتمردهما على الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1776. وعلى المرء أيضاً أن يفترض على نحو أو آخر أن تلك السنوات الـ225 الممتدة من الفقه القانوني الأميركي بين السنوات 1776-2001 لم تكن سوى محض هراء. وكانت المسودات الأصلية لتلك المذكرات من الحماقة إلى حد أرغم مكتب الاستشارات القانونية نفسه على التراجع عنها. ففي أكتوبر من عام 2008، نصح المكتب بتوخي الحذر عند تطبيق أي من نصوص المذكرات الصادرة عنه، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنصائح الصادرة عنه بخصوص الرقابة المحلية على المواطنين، وكذلك الاستخدام الداخلي المحلي لقوات الجيش الأميركي. وقبل أسبوع واحد من تنصيب الرئيس أوباما، أصدر مكتب الاستشارات القانونية مذكرة أخرى تراجعية جاء فيها "إن بعض النصوص الواردة في مذكرات سابقة صادرة عنه بشأن الحرب والأمن القومي وغيرهما، لم تعد تعكس وجهة نظر المكتب". وكما يقول المثل الشعبي السائر: فأن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي مطلقاً... أليس كذلك؟ ولكن هل يفيد هذا التراجع أو الاعتذار كثيراً في الإجابة عن السؤال المهم: كيف أخذت هذه المذكرات القانونية السيئة الخطيرة على محمل الجد من الأساس؟ ربما تكون إحدى الإجابات الممكنة عن هذا السؤال نظرية "الكذبة الكبرى" فيما يعرف في الدعاية السياسية، وهي النظرية التي وضعها سيئ الذكر القائد النازي أدولف هتلر. وجاء في صياغته المكتوبة لهذه الفكرة: "عادة ما تبدي عامة الناس استعداداً كبيراً للوقوع ضحية للأكاذيب الكبيرة وليست الصغيرة. وطالما أنهم كثيراً ما يطلقون الأكاذيب الصغيرة أنفسهم، بينما يعتقدون أنه من العار أن يطلق أحدهم الأكاذيب الكبيرة، فإن من الطبيعي ألا يلجأوا إلى فبركة هذا النوع الأخير من الأكاذيب. وللسبب عينه فإنه لن يخطر ببالهم مطلقاً أن يتجرأ أحدهم على تشويه الواقع وتحريفه على ذلك النحو المعيب المسبب للعار". بعبارة أخرى فكلما كانت المزاعم كبيرة ومدوية، كلما تعمق شعورنا بأنه لابد من أن يكون فيها شيء من الصحة والحقيقة. ومثلما تبدو بعض البنوك وشركات التأمين من الضخامة بحيث يصعب تصديق قابليتها للانهيار، فإن هناك من المزاعم الصادرة عن الشخصيات السياسية القيادية النافذة، من الكبر والنفوذ بحيث يصعب التشكيك في صحتها. وللتدليل على هذه الحقيقة فلنذكر كيف شاع بيننا التأكيد يوماً على وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، وأن حربنا التي سنشنها ضده لن تكون أكثر من رقصة رشيقة خفيفة؟ وعادة ما تسود بيننا الأكاذيب الكبيرة، لأنه يصعب علينا تصديق أن يكون قادتنا بكل هذا القدر من التضليل. وفي وسع هذه الأكاذيب أن تحدث أضراراً بالغة بالطبع. والدليل أن أكاذيب إدارة بوش القانونية الكبيرة التي لخصناها آنفاً، هي التي مهدت الطريق أمام أشنع مراحل تاريخنا وأشدها عاراً. فليس أقل عاراً من وضعها سنداً قانونياً لممارسة التعذيب بحق المشتبه بهم من المعتقلين باسم الحرب على الإرهاب. فهل من عار يمكن أن يلحق بسمعة أميركا وتاريخها أكثر من ممارستها للتعذيب بحق سجناء حربها في القرن الحادي والعشرين؟ وهل من عار أكبر يمكن أن يلحق بها من ممارسة أفعال كهذه باسم حرب هدفها النهائي هو هزيمة الإرهاب والتطرف ونشر قيم الحرية والديمقراطية على نطاق العالم بأسره؟ ولكن من حسن الحظ أن مصير الأكاذيب الكبرى جميعها هو السقوط تحت وطأة ثقل زيفها وخديعتها. وها نحن الآن قد دخلنا عهداً جديداً من تاريخنا السياسي. فقد ألقي بالمذكرات القانونية الأولى تلك إلى مكب النفايات، بينما ودع الجمهور الأميركي إدارة بوش بقياسات رأي عام تدنت فيها شعبية تلك الإدارة إلى الحضيض. ولكن إياك أن تظن أننا قد ودعنا تلك الحقبة كلها وتركناها خلفنا. وكما يقول هتلر -مؤسس نظرية الأكاذيب الكبرى- فإن بعض شوائب تلك الأكاذيب المهولة عادة ما تبقى عالقة لتمارس سحرها. وهذا يعني أن للأكاذيب الكبرى "بنياتها" الصغريات اللائي يواصلن تأثيرهن على الخطاب السياسي العام بطريقة يصعب تقصيها والتثبت منها. وهذه خلاصة التحدي السياسي القانوني الذي نواجهه اليوم: كيف نتقصى شوائب ورواسب الأكاذيب القانونية الكبرى التي تم التخلي عنها الآن؟ ويتطلب ذلك تقصي هذه الشوائب في نظامنا القانوني والدستوري، وفي سياساتنا الخارجية، مع إزالة الضرر والتشوهات التي تحدثها هذه الرواسب الكاذبة. روزا بروكس أستاذة القانون بجامعة جورج تاون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"