الأخبار حول المصالحة الفلسطينية بين "فتح" و"حماس" باعثة على التفاؤل! لكنه تفاؤل مُحاط بالكثير من التخوف والحذر. لأول مرة منذ سنوات بلغ اليأس في صفوف المؤيدين للشعب الفلسطيني مبلغاً يائساً، وترافق ذلك مع جهد مضاعف على الصعيد الدولي من قبل إسرائيل لتسويق ذلك الانقسام بكونه السبب الرئيسي في فشل "السلام". أسوأ من ذلك كله هو تشظي البوصلة الفلسطينية، وتشتت وجدان الفلسطينيين وفقدانهم للأمل. التداعيات الناجمة عن معركة غزة رممت بعض تلك الندوب والجراحات العميقة رغم الثمن الباهظ الذي دفعه أهل غزة شهداء وجرحى وبيوتا مهدمة. فقد استردت المعركة مستويات التضامن العربي والدولي مع الفلسطينيين وأكدت مركزية القضية الفلسطينية عربياً ودولياً، كما أعادت ترتيب الأوليات، ووفرت المناخ الملائم لإعادة إطلاق جهود المصالحة. لكن حتى تنجح هذه المصالحة ولا تلحق بمسار الفشل الذي انتهت إليه سابقاتها، هناك ظروف بنيوية عديدة يجب العمل الحثيث على بنائها وتوفيرها. ومن ضمن تلك الظروف، يمكن الإشارة إلى ما يلي: أولاً: يجب أن تكون هناك آلية متابعة دائمة من الأطراف التي رعت المصالحة، ربما على شكل لجنة عربية– فلسطينية. هذه الآلية/اللجنة تُحال إليها كل المشكلات التي تنشأ في مرحلة "ما بعد التوقيع" على نصوص المصالحة وتعمل على حلها أولاً بأول. النقص الأساسي في جهود المصالحات السابقة، كان عدم وجود آلية متابعة لصيقة وفاعلة. فالمصالحات التي تتم على خلفية صراعات دامية وأحقاد واتهامات متواصلة لا يمكن أن تُنهي بمجرد تواقيع يقوم بها ممثلون عن الأطراف المتصارعة كل الخلافات السابقة. ثانياً: هناك قواعد التنظيمات وهيئاتها وإعلامها وأدبياتها الحزبية التي تحتاج إلى ترويض دائم ومستمر، يتبنى موقف المصالحة ويترجمه إلى ثقافة حزبية. ومراقبة الالتزام بثقافة المصالحة خاصة في الإعلام الحزبي يجب أن تتخطى مهام لجان المتابعة، فهي مهمة المثقفين والمستقلين الفلسطينيين أيضاً، فضلاً عن كونها مهمة القيادات الحزبية، التي وقعت على المصالحة بالدرجة الأولى. والذي شهدناه في السنوات القليلة الماضية تمثل بعضه في مصافحات ومصالحات على مستوى القيادات العليا، لكن نار الخلافات استمرت مشتعلة على مستوى القواعد. هناك تحد وطني وكبير حقاً يتمثل في كيفية تبريد تلك النار وتحويلها إلى تنافس شريف لخدمة الحقوق الوطنية الكبرى، وإحالة إصدار الحكم حول نتائج ذلك التنافس إلى الشعب. أهم شرط في تخليق ثقافة حزبية تقر التنافس الشريف من جهة، وتنبذ العداء الإقصائي من جهة ثانية هو التخلي عن إعلام التخوين هنا والتكفير هناك. ثالثاً: تحتاج قيادات "فتح" و"حماس" إلى تشرب قناعة تبدو واضحة كالشمس لكن لا تريد هذه القيادات رؤيتها، وهي أن أياً من هذين التنظيمين الكبيرين لا يستطيع الانفراد بقيادة الشعب الفلسطيني، و"القضاء" على الآخر. على "فتح" قيادة وقواعد أن تدرك وتتشرب في وعيها أن أيام قيادتها الانفرادية للشعب الفلسطيني قد انتهت، وأن هناك ظروفاً لا يمكن إعادتها إلى الوراء، ولاعبين لا يمكن تجاهل وجودهم في الساحة. وعلى "حماس" قيادة وقواعد أن تدرك وتتشرب في وعيها أنها لا يمكن أن تتجاوز وجود "فتح" وشعبيتها ومكانتها في وجدان الفلسطينيين من ناحية، وأنه من ناحية أخرى أفضل لها وللشعب الفلسطيني بشكل عام، ان تكون "حماس" منخرطة في تحالف وطني عريض لقيادة الشعب الفلسطيني. لا الوضع الإقليمي ولا الدولي يسمح لـ"حماس" بأن تنفرد بالقيادة، وعندما حاولت أن تفعل ذلك بعد انتخابات يناير 2006 شاهدنا جميعاً الأكلاف التي دفعها الشعب الفلسطيني من حصار ومقاطعة. رابعاً: هناك جهد كبير من المطلوب الانخراط فيه فور التوقيع على المصالحة، وهو العمل على إنجاز برنامج سياسي مشترك يمثل توافق الحد الأدنى ويجمع بين مشروع النضال ومشروع الحل السلمي. آليات النضال وآليات الحل السلمي لم تنجزا للشعب الفلسطيني الحقوق الدنيا التي يرنو إليها. وهذا يحتاج إلى نقاش واسع لا تحتمله هذه المقالة، لكن من المهم الانطلاق من نقطة أساسية وهي أن المقاومة ليست هدفاً بل وسيلة، كما أن "العملية السلمية" ليست ولم تكن يوماً ما هدفاً ينبغي المحافظة عليه حتى ولو كان على حساب تدمير الحقوق الفلسطينية. كلا الأمرين وسيلة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، وكلاهما يجب أن يظلا خاضعين للتحليل والنقد وإعادة النظر، وأي منهما تصبح أكلافه أكثر من فوائده يجب أن يجمد ويتوقف والتخلي عن تبنيه بمنطق قداسي غير متغير. خامساً: عملياً وواقعياً ومن دون غرق في الأحلام تكون قاعدة الحركة السياسية والنضالية الفلسطينية هي حل الدولتين. وجدانياً وعاطفيا َ وإنسانياً فإن كل الانتقادات التي توجه إلى هذا الحل صحيحة ولها مكانها الحقيقي. وهناك أيضاً شكوك حول مدى استمرار منطق "حل الدولتين" في ظل تكرس الاحتلال الإسرائيلي وتوسع الاستيطان وترسخه، وتمزيق الأرض الفلسطينية، وهذا كله صحيح. لكن وضوح هذه الصورة وتحميل إسرائيل مسؤولية انهيار "حل الدولتين" ما يلبث أن يغرق تحت أرتال الشعارات والتصريحات التي تنحاز للأحلام على حساب الواقع، ويصبح الفلسطينيون بالتالي وكأنهم يتحملون فشل حل أفشلته إسرائيل نفسها. إذا كان حل الدولتين فاشلاً وإسرائيل لن توافق عليه وقضت على إمكانياته من خلال ممارساتها الاحتلالية، فلنعمل على إظهار ذلك، ولنتنحى جانباً حتى تظهر الصورة جلية. سادساً: إذا أردنا توسيع قاعدة التأييد الدولي وإجبار كل الأطراف على الانفتاح على "التحالف الفلسطيني" المنتظر، فهناك ظرف إضافي خاص بـ"حماس" هذه المرة ويتمثل في ضرورة تعديلها لميثاقها وشطب العديد من العبارات والتصريحات الخاصة بإعلان العداء لليهود واليهودية والتي تمثل نقاطاً غير مضيئة في مسيرة النضال الفلسطيني. هذا النضال كان وما زال ويجب أن يظل واضحاً ونقياً في إعلان عدائه ضد المشروع الصهيوني والاحتلالي، وليس ضد اليهود كأتباع دين واليهودية كعقيدة. "ميثاق حماس" الصادر سنة 1988 لم يعد يعبر عن سياسة الحركة في الوقت الراهن، والفرق هائل بينه وبين برنامج "حماس" الانتخابي في أواخر 2005 أو برنامج حكومة "حماس" سنة 2006. تغيير ميثاق "حماس" يجب أن يكون مطلباً وطنياً قبل أن يكون استجابة لضغوط دولية. وأولى بـ"حماس" أن تغيره الآن وبدافع ذاتي من أن تضطر لتغييره نتيجة لصفقة سياسية أو ضغط خارجي.