نمر الآن بمرحلة غير مستقرة من مراحل التاريخ، حيث نواجه احتمالاً حقيقياً بحدوث كارثة اقتصادية عالمية، على مستوى مماثل لتلك التي حدثت إبان الكساد الكبير في أواخر عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. ومما يفاقم من أزمة الائتمان العالمي الحالية، وجود أزمة عالمية في الطاقة، وأزمة أخرى في المناخ، وهو ما يمكن أن يؤدي بنا في النهاية إلى كارثة للحضارة البشرية ليس لها مثيل من قبل. وهذه الأزمات الثلاث (الائتمان- الطاقة- التغير المناخي) متداخلة فيما بينها بشكل وثيق، وتتغذى على بعضها بعضاً. ومعالجة هذا التهديد الثلاثي لنمط حياتنا الحالي، سيحتاج إلى كتابة رواية اقتصادية جديدة للجنس البشري لديها القدرة على تحويل المصاعب التي نواجهها حالياً إلى فرص. وأزمة الائتمان الحالية في الولايات المتحدة، والتي تنتشر بشكل حثيث إلى أوروبا وغيرها من قارات العالم بدأت في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ففي تلك الفترة، كانت الأجور في الولايات المتحدة راكدة، بل وتميل نحو التناقص ـ وهو وضع استمر لمدة عقد كامل من الزمان قبل التسعينيات. وفي ذلك الوقت أيضاً، واجهت الولايات المتحدة ركوداً 1991 بسبب الانكماش في سوق العقارات الذي كان نتيجة حتمية لتنامي الإنفاق الاستهلاكي بدرجة رهيبة، وذلك بعد أن مكنت بطاقات الائتمان التي كانت متاحة لجميع المستهلكين الأميركيين شراء السلع الاستهلاكية والخدمات بكميات تفوق حاجتهم و إمكاناتهم الحقيقية. ساعدت "ثقافة بطاقات الائتمان" آنذاك على تعزيز القوة الشرائية. وأعادت المواطنين والشركات والمؤسسات الأميركية مرة أخرى إلى طريق الإنتاج؛ لأن المطلوب في ذلك الوقت، هو إنتاج البضائع والسلع والخدمات كافة، التي يمكن شراؤها ببطاقات الائتمان. وخلال الأعوام السبعة عشر الماضية، كان المستهلكون الأميركيون هم الذين يدعمون الاقتصاد العولمي بمشترياتهم المدفوعة بالفرص الائتمانية المتاحة لهم وليست النابعة من حاجاتهم الحقيقية. وكان ثمن إبقاء الاقتصاد العالمي قائماً على أساس زيادة الديون الاستهلاكية الأميركية، هو تآكل مدخرات العائلة الأميركية. يتبين ذلك بوضوح لو عرفنا أن نسبة مدخرات العائلة الأميركية المتوسطة عام 1981 كانت 8? وأن هذه النسبة تضاءلت تدريجياً بمرور السنوات حتى وصلت إلى "المنطقة السلبية"، أي ما دون الصفر بحلول عام 2006. وهو ما كان يعني أن الأميركيين في ذلك الوقت قد أصبحوا ينفقون أكثر مما يكسبون. واستخدم المتخصصون آنذاك مصطلحاً هو "الدخل السلبي"، وهو عبارة عن مزيج من كلمتين كل منهما عكس الأخرى كان يعبر عن ظاهرة تمثل في جوهرها مقاربة فاشلة للنمو الاقتصادي. وعندما انتقلت مدخرات العائلة الأميركية إلى المنطقة السلبية، عملت صناعة الرهن العقاري والصناعة المصرفية على توفير خط حياة ثانٍ في صورة ائتمان اصطناعي، حيث أُتيح للعائلات الأميركية شراء المنازل بدفع مقدم حجز صغير، أو دون دفع مثل هذا المقدم على الإطلاق، وبفوائد قليلة قصيرة الأمد أو من دون مثل تلك الفوائد على الإطلاق. كانت هذه السياسة تُسمى بسياسة الرهن العقاري عالي المخاطرة. وعندما كانت نسبة الفوائد، ترتفع ويحل أجل سداد قيمة الرهونات، كان المشترون يسعون إلى ترحيل تلك الأعباء إلى المستقبل. وهكذا قامت العائلات الأميركية بترحيل تلك الأعباء، في صورة إعادة جدولة للديون مرتين أو ثلاث مرات. وابتلع العديد من الأميركيين العاديين الطعم، وأقدموا على شراء بيوت فخمة تزيد عن احتياجاتهم الحقيقية، وتزيد أيضاً عن إمكاناتهم المالية. والأسوأ من ذلك، أن بعض العائلات الأميركية بدأت في استخدام تلك المنازل للقيام بوظيفة تماثل وظيفة ماكينات الصرف الآلية. فكانت العائلة منهم، عندما تحتاج إلى نقد، تعمد إلى بيع المنزل والحصول على ثمنه، ثم تشترى منزلاً آخر بالطريقة نفسها، وعندما تقع في أزمة سيولة تكرر العملية نفسها، وهو ما أدى في النهاية إلى خلق فقاعة عقارية. وكان لا بد أن يأتي يوم وتنفجر تلك الفقاعة، وهو ما حدث فعلاً خلال الشهور الماضية، وجعل الملايين من الأميركيين يواجهون خطر طردهم من منازلهم، وكان سبباً في انهيار العديد من البنوك وجعل من الاقتصاد الأميركي - بعد الأزمة الأخيرة - اقتصاداً فاشلاً. ونظراً لأن المؤسسات المصرفية والمالية الأميركية والأوروبية والآسيوية ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً، فإن موجات أزمة الاتئمان اندفعت من أميركا، لتجتاح مختلف جوانب الاقتصاد العالمي. ومما فاقم من أزمة الائتمان على مدار العامين الماضيين ارتفاع أسعار البترول التي وصلت إلى أرقام فلكية لم تصل إليها من قبل (وصلت إلى 147 دولاراً أميركياً في الأسواق الأميركية في يوليو الماضي) وأدى ارتفاع أسعار البترول إلى تأجيج التضخم والتقليل من القدرة الشرائية للمستهلكين، وإبطاء الإنتاج وزيادة البطالة، وإحداث المزيد من الدمار باقتصاد مثقل بالفعل بالديون. ونحن نواجه في الوقت الراهن ظاهرة أطلق عليها "ذروة العولمة"، هذه الذروة تحققت، عندما وصل سعر برميل النفط إلى 150 دولاراً. وبعد هذه النقطة يخلق التضخم "جداراً نارياً" يحول دون استمرار النمو الاقتصادي، بل ويدفع الاقتصاد العالمي مرة أخرى نحو الأسفل، حتى يصل إلى نسبة نمو صفرية. السبب في ذلك هو أن الانكماش في الاقتصاد العالمي هو الذي يجعل سعر الطاقة يهبط كنتيجة حتمية لقلة استهلاك الطاقة نتيجة لتقلص الإنتاج نفسه. وليس ثمة حاجة لتأكيد أهمية "ذروة العولمة"، ذلك لأنه من المعروف أن الفرضية الأساسية التي قامت عليها العولمة، كانت هي أن البترول الرخيص والمتوافر بكميات كبيرة، هو الذي يسمح للشركات بتحريك رأس المال إلى أسواق العمالة الرخيصة، حيث يمكن إنتاج المواد الغذائية والبضائع المصنعة بأقل تكلفة ممكنة، وبهوامش ربح مرتفعه، ثم القيام بعد ذلك بشحنها إلى مختلف دول العالم. وهذه الفرضية الأساسية تفككت الآن وحلت محلها مؤشرات تنذر بشر لعملية العولمة بأسرها. مع انخفاض كميات البترول المتاحة لجميع البشر، فإن الجهود الرامية إلى إدخال ثلث سكان العالم تقريباً- إجمالي سكان الصين والهند معاً- إلى الثورة الصناعية الثانية القائمة على البترول قد ارتطمت بالعرض المحدود لتلك المادة الثمينة. بمعنى آخر، ان ضغط الطلب، نتيجة للزيادة المستمرة في أعداد البشر في مقابل احتياطات البترول الناضبة لا بد، وأن يدفع أسعاره للأعلى وعندما يصل السعر إلى 150 دولاراً للبرميل، فإن التضخم يصبح قوياً للغاية، ويشكل عبئاً على الاقتصاد مما يؤدي به إلى الانكماش. بالإضافة لذلك، يتسبب التغير المناخي في المزيد من التآكل في الاقتصاد بمختلف مناطق المعمورة. لكي ندرك الأبعاد الحقيقية، لذلك، من المفيد لنا في هذا السياق - لغرض التوضيح- أن نعرف أن إجمالي قيمة الخسائر التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأميركية جراء الإعصارين "كاترينا"، و"ريتا" قد بلغت 240 مليار دولار. كذلك أدت الفيضانات، والجفاف، والحرائق الكبرى، والأعاصير وغيرها من الكوارث الجوية إلى تمزيق المنظومات البيئية في مختلف أنحاء العالم، وهو ما ترتب عليه نتائج وخيمة لم تقتصر فقط على إعاقة الإنتاج الزراعي وتقليص كميات المحاصيل، ولكنها طالت أيضاً البيئة التحتية الزراعية والصناعية والخدماتية، مما أدى إلى إبطاء عجلة الاقتصاد العالمي، وتشريد الملايين من البشر في مختلف المناطق. لقد صممت حكومة الولايات المتحدة خطة إنقاذ تبلغ تكلفتها تريليون دولار أميركي، من أجل إنقاذ الاقتصاد، وعلى الرغم من فداحة هذة التكلفة، فإنها لن تكون كافية في حد ذاتها لكبح جماح التدهور الاقتصادي، وتغير المسار الهابط الحالي وإعادة الاقتصاد مرة أخرى إلى فترة جديدة من النمو الاقتصادي المستدام. يرجع السبب في ذلك إلى أن الديون المتراكمة على الولايات المتحدة قد وصلت الآن عدة تريليونات من الدولارات، في الوقت الذي تستمر فيه المرتبات الأميركية في حالة من الركود، كما ترتفع نسبة البطالة. ومن يعتقد أن الركود الحالي قصير الأجل، وأنه لا يزيد عن كونه مجرد دورة من دورات الاقتصاد يعود بعدها إلى حالته الطبيعية هو شخص ساذج، أو يحاول خداع نفسه والآخرين. هنا لا بد أن يتبادر إلى الأذهان السؤال الحتمي: ما العمل إذن؟ العالم بحاجة إلى صياغة رواية اقتصادية جديدة وقوية وقادرة على دفع النقاش والأجندة في مختلف جوانب أزمة الائتمان العالمية والانتقال من الخوف إلى الأمل، ومن قيود الاقتصاد إلى الإمكانات التجارية. وهذه الرواية في طور البزوغ الآن، حيث تشرع بعض الصناعات في تسريع خطواتها من أجل التوصل إلى طاقات متجددة، وإنشاءات مستدامة، وإلى تقنية تخزين الهيدروجين، وشبكات مرافق ذكية، وسيارات كهربائية تضع الأساس لثورة ما بعد الكربون الصناعية الثالثة. والسؤال الأهم من الذي سبقه في هذه الحالة: هو هل سنكون قادرين على إنجاز هذا الانتقال في الوقت المناسب لتجنب السقوط في الهاوية؟