بالطبع لفتت الأحداث السياسية وذات المضامين السياسية أنظار المراقبين لأولمبياد بكين. من مراقبة مواقع الكترونية، إلى الأحداث الإرهابية ونضالات القوميات المضطهدة في الصين وعلى رأسها المسلمون، وصولاً إلى ملاحظات بوش الذي أرسلته العناية الإلهية لإرساء الحرية في العالم، كما يقول أنصاره، أو للتعريض بسمعة أميركا والوصول بها إلى أسوأ صورة في تاريخها لدى الشعوب الأخرى، كما يظهر استطلاع أخير لـ"منتدى السياسات الكونية". ما لم يناقش، وما يهمنا أن نناقشه، وخاصة في السياق العربي، هو السياسات الرياضية على ضوء خبرة الأولمبياد عموماً وأولمبياد بكين خصوصاً. والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا في العالم العربي، هو هل نصوغ سياساتنا الرياضية على ضوء ظاهرة الأولمبياد أم اعتباراً لمطالب وأهداف أخرى تماماً؟ الأولمبياد في أصله اليوناني وفي سياقه الحديث، يهتم بالخوارق الرياضية. فالمسابقات تتم بين أفضل رياضيين في العالم، والأرقام التي يحققونها يستحيل تحقيقها بالنسبة لجميع البشر الآخرين سواهم، والحركات التي يؤدونها يصعب مجرد تقليدها على الغالبية الساحقة من الناس أيضاً. ولكي يتمكن هؤلاء الرياضيون من إتيان هذه الحركات وتسجيل تلك الأرقام الخارقة، فهم يخضعون لبرامج بالغة الصرامة في التدريب والأكل وقضاء الوقت وكل ما يتعلق بحياتهم. ويقوم المدربون بدور تخطيطي بالغ الأهمية في تنشئة هؤلاء الرياضيين وفي توجيههم أثناء المباريات والمسابقات التي تكاد تماثل المعارك الحربية في دقتها التخطيطية وعنفوانها وتمثيلها للأمم والدول. ومعنى ذلك أن المفهوم الذي يروج له الأولمبياد هو أن الرياضة تشكل قطاعاً خاصاً من قطاعات الحياة وليس مجرد أسلوب للحياة كما يجب أن تكون. وتهتم الدول والحكومات بإثبات لياقتها وحبها الجم للرياضة بالمفهوم الأولمبي وهيبتها في هذا المجال، بأن توجه معظم الميزانيات المخصصة للرياضة لإعداد عدد كبير أو صغير من الرياضيين المحتمل فوزهم بميداليات في الأولمبياد أو في المسابقات الرياضية الأخرى التي تتم على مستوى الأقاليم والقارات وعلى مستوى العالم بمختلف التسميات. وغالباً ما يشارك نفس الرياضيين في جميع هذه المسابقات والمباريات، وهو ما يضاعف التركيز عليهم إعلامياً ومالياً، إذ يصيرون مع الوقت استثماراً سياسياً وتجارياً كذلك. بل إن الرياضة الأولمبية، كما نشاهد أيضاً في أولمبياد بكين، حولت أكثر الرياضيين العظام إلى كائنات تشبه الروبوت. فهم صاروا يخضعون لتعليمات صارمة من مدربيهم، ويتحركون بحساب دقيق. والواقع أن "تتجير" الرياضة صار سياسة شبه إلزامية للدول والحكومات. ويتم هذا "التتجير" على مستويات مختلفة، بدءاً من نظام الاحتراف حتى إذاعة المباريات الشعبية على شاشات التلفاز المحلية والفضائية، وصولاً إلى خصخصة النوادي الرياضية. ومع "التتجير" نشهد إهمالاً للرياضة باعتبارها نشاطاً اجتماعياً. بل إن ما يحدث هو أن الموازنات المالية والموارد تحول من المستحقين على مستوى القرى والمدن الصغيرة والمواقع المحلية، حيث يعيش ملايين الراغبين في ممارسة شكل أو آخر من أشكال الرياضة دون أن يكونوا بالضرورة أولمبيين... إلى ذلك العدد المحدود للغاية والذي يعد أحياناً على أصابع اليد الواحدة من الأبطال الفعليين أو المحتملين في رياضات بعينها. ومعظم هؤلاء الأبطال يتطورون بالصدفة في معظم بلاد العالم الثالث، لكنهم يحصلون في النهاية، وبسبب السياسات التنافسية الأولمبية، على كل أو أغلب الموارد المخصصة للرياضة، مقابل إهمال النوادي المحلية وحرمان الملايين من فرص التوجيه الرياضي. لكن أولمبياد بكين واصل وعمق اتجاهاً مناقضاً في ممارسة المباريات والمسابقات الرياضية. فمقابل إبراز الخوارق الحركية، ثمة ميل متزايد لممارسة الرياضة باعتبارها أيضاً جماليات حركية. وبعض الألعاب صارت أقرب للرقص الإبداعي الفردي والجماعي. ولا تكاد تتميز بعض هذه الألعاب الأولمبية عن أفضل عروض السيرك أو عن أفضل مسرحيات برودواي الغنائية الراقصة. ويهتم الرياضيون أنفسهم، وليس فقط المخططين والمدربين، بأن تشي حركاتهم بالخفة والرشاقة والجمال الإبداعي وليس فقط بالإعجاز البدني. وتشتهر بعض الدول بهذه المدرسة في أداء الرياضات، مثل الاتحاد السوفييتي السابق والدول الحالية التي ورثته، خاصة روسيا وأوكرانيا وكازاخستان وأوزبكستان. ومع مرور الوقت، تأثرت الرياضة في الغرب أيضاً بهذا الاتجاه. كما أن هذا التطور قد لا يحدث على مستوى دولة أو أمة، بل على مستوى مدرسة في مجال رياضي بعينه. ففي رياضة كرة القدم سنجد منافسة شرسة بين مدرسة الأداء الجمالي، ويتبناها البرازيليون والأسبان والهولنديون، ومدرسة الأداء الوظيفي التي يتبعها الأوروبيون وخاصة في الشمال. وتتسم الأولى بأن كرة القدم لم تعد فقط تسجيل أهداف، بل صارت متعة بصرية وجمالية تشبه في ذلك رقص الباليه. وما يهمنا في هذا التطور أنه يمهد لفلسفة أخرى بديلة لتوجيه السياسات الرياضية. البديل هو أن نتعامل مع الرياضة كأحد مصادر الصحة والجمال في حياتنا، وأقصد حياة جميع الناس؛ رجالاً ونساءً, أطفالاً وبالغين وعجزة, مكتملي القدرة الجسدية وأصحاب الاحتياجات الخاصة... لقد خلقنا الله بميل طبيعي للحركة. فأكبر مصادر الملل في حياة البشر هو السكون أو بالأحرى الكسل. وأدرك الغربيون الآن حاجة الإنسان الطبيعية للحركة، فشجعوا رياضة المشي بين جميع المواطنين. وتقوم ولايات أميركية بعقد مسابقات في المشي والجري الطويل للجميع. ويحدث أن يفوز بها عجائز أو كبار في السن، وأحياناً معاقون, وهو ما يوفر دليلاً مهماً على القدرات الطبيعية التي منحها الله للبشر ولا تتطلب سوى الإيقاظ والحفز. هذا هو المفهوم الذي ندعو الى إقامة سياسة رياضية عربية على أساسه. وبدلاً من مفهوم للرياضة يخص به بعض الناس ويستهدف إنتاج قدرات فردية بدنية خارقة، ويكون كل دور الناس فيها هو المشاهدة، فقد آن الأوان لأن نبدع مفهوماً جديداً للرياضة يقوم على حق الناس جميعاً في ممارستها. وبينما أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بالرياضة، وعاش العرب عصوراً طويلة في الطبيعة ودون انفصام عنها، وبأداء حركي عالي الإيقاع ومتنوع الوظائف، فإن نمط حياتنا العصرية صار مرتبطاً ارتباطاً حميماً بالكسل والبعد عن الطبيعة وعن مواهبنا الفطرية. ويعني ذلك أننا نحتاج الى قابلة تلدنا من جديد في الطبيعة أو تعيد صلتنا وتصالحنا مجدداً مع هذه الطبيعة وتمنحنا فرصة الحياة في صحة وجمال. والرياضة الجماهيرية هي هذه الأداة. إن بلداً عربياً مثل مصر كان يتمتع ببنية أساسية ممتازة للرياضة الجماهيرية. وقد نشر عبد الناصر المعاهد الرياضية والساحات الرياضية والنوادي الشعبية (نوادي العمال والشركات الصناعية ونوادي الطلاب) على نطاق واسع للغاية. الآن وبعد أن وقع "تتجير" الرياضة وتبنت السياسة الرياضية المفهوم الأولمبي، أي إنتاج أبطال خارقين في ممارسة بعض أنواع الرياضات، وقع إهمال هذه البنية وأصبحت شبه مهجورة. وكان لابد للمثقفين من الانتباه لهذا الإهمال الرهيب لحق الشعب كله في ممارسة الرياضة، بدلاً من الاكتفاء بنقد الاهتمام الأحادي بكرة القدم على حساب غيرها من الرياضات الشعبية. نحتاج إلى أمثلة ملهمة لكيفية إعادة الاعتبار للرياضة كمصدر للجمال والصحة في حياة الشعوب العربية أي كأسلوب حياة.