لم يكن الأمر غريباً أو على غير العادة أن تعلن دولة الإمارات العربية المتحدة إلغاءها الدين العراقي وقدره نحو أربعة مليارات من الدولارات، وتقوم بتعيين سفير لها في دولة العراق الشقيقة، والتي سبقتها زيارة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان كأول وزير خارجية عربي يزور بغداد منذ سقوط نظام الطاغية صدام حسين. ليس هناك أي غرابة لدولة تتمسك منذ قيامها بسياسة خارجية "إنسانية" و"أخلاقية" ضاربة بكل نظريات العلوم السياسية والعلاقات الدولية عرض الحائط، إذ كانت تؤكد دائماً على أن السياسة هي فن الممكن، وأنه لا أخلاق في السياسة بل مصالح متبادلة فقط، وفق كلمة مكيافيللي الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة"، ومهما كانت الوسيلة "غير شريفة" فإن الغاية والمصلحة العليا تبرر استخدامها. انطلقت سياسة دولة الإمارات على يد مؤسسها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد، الذي حباه الله الحكمة والبصيرة النافذة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ومن يمتلك البصيرة النافذة يرى ما لا يراه البشر، فيشاهد الحلم البعيد حقيقة يمكن تحقيقها، والخيال الإعجازي واقعاً ملموساً، والمستحيل رهن بنانه، لأن إيمانه لا يتزعزع بقدرة الخلق على الإبداع والإنجاز، وأن التوفيق من الخالق، لذا فقد شعر أنه يتحمل مسؤولية رسالة هو أهل لها. كان "رحمه الله" يتقدم الصفوف دائماً ويتصدى لأشد الأزمات العربية حرجاً، طارحاً حلولاً مبتكرة ووسائل جديدة لعلاجها، ويشعر أن مهمته في الحياة هي تقديم يد العون لكل محتاج من البشر قبل أن يسأل، واتسع هذا الأمر لتقديم يد العون للشعوب أياً كان موقعها على الأرض. وقد امتدت تعاليم ومبادئ وقيم حكيم العرب الشيخ زايد إلى أبنائه، وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله". لذلك فإن التوجهات العامة للسياسة الخارجية لدولة الإمارات جاءت متسقة مع حركتها الاستراتيجية التي امتدت لأكثر من 36 عاماً، لم تتغير في توجهها الإنساني، وقيمها الأخلاقية، وربما يرجع ذلك إلى ثبات ومتانة مرتكزاتها ومنطلقاتها في ظل القناعة التامة بالمسؤولية الإنسانية الملقاة على عاتق دولة الإمارات والطريق الذي خطته لنفسها للنهوض بهذه المسؤولية. امتد نشاط السياسة الإنسانية لدولة الإمارات العربية المتحدة ليشمل النطاق الجغرافي للشرق الأوسط وعبر إلى أوروبا وجنوب شرق آسيا ودولاً أخرى كثيرة انطلاقاً من عدة مرتكزات: * إدراك أن العالم الذي نعيش فيه يحمل من المخاطر والتهديدات والمحن والكوارث الطبيعية والاصطناعية ما يصعب على أي مجتمع مواجهته بمفرده، وأن على باقي شعوب العالم مساندته ليستطيع النهوض على قدميه من جديد. * الإيمان بالتكافل الاجتماعي والإنساني "العابر للحدود" الذي يدفع القادرين إلى مساعدة المحتاجين ومد يد العون لهم في وقت الشدائد حتى لا يفقدوا الأمل في الغد، وليزدادوا ثقة في قدرتهم على اجتياز المحن. * إن السعادة القومية لا تتأتى وهناك من يشعر بالتعاسة، فالبشر جميعاً أمام الله سواسية لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى، وهذه التقوى لا تأتي من فراغ بل بالعمل الجاد لمساعدة الآخرين. * إن من يمتلك مثلث "الثروة والسلطة والإرادة على الفعل" عليه أن يستثمره في الاتجاه الصحيح، من دعم لمشروعات التنمية والتطوير والحفاظ على تقدم البشرية في كافة المجالات. * إن الاستثمار في البشر، أياً كان هؤلاء البشر إنما هو رصيد للبشرية جمعاء، ينثر بذور التآخي والتراحم والتقارب بين مختلف الشعوب من جانب، ويصقل قدرتهم على صنع حاضرهم وبناء مستقبلهم من جانب آخر. * إن بناء الجسور الإنسانية بين الشعوب هو دائماً الضمان الحقيقي لعلاقات دولية أوثق وأقوى، لاستنادها إلى التعاضد في مواجهة الأزمات والكوارث وتنمية المصالح المشتركة دون أي مزايدة أو انتهازية. * الفهم العميق لمسؤولية الدولة الخارجية في محيطها الدولي التي لا تقف عند حدود العلاقات المتعارف عليها في الأدبيات السياسية من صداقة وتحالف وتنافس وصراع وعداء، بل تتعداها إلى الروابط الإنسانية والقيم الأخلاقية التي تحكم عادة العلاقات بين البشر. * إن دولة الإمارات لم تكن يوماً طرفاً في العدوان على أحد أو تهديده، ولم تكن لها أية أطماع، بل تحترم دائماً الشؤون الداخلية لكل دولة، وتصرُّ على حل المشكلات والأزمات بالطرق السلمية، ومن هذا المنطلق فإن تحركاتها الإقليمية والدولية بدافع إنساني فقط. لذلك فقد تنوعت وسائل دولة الإمارات في تنفيذ سياستها الإنسانية، التي عادة لا تنشر عنها إعلامياً أي شيء، بل تحاول أن تتجنب الزخم الإعلامي، ونادراً ما تشعر الدول الأخرى بما تقوم به قيادة دولة الإمارات في تبنيها السياسة الإنسانية، لذلك فإن الحديث عن وسائل تنفيذ هذه السياسة يحمل ضمنياً مشقة البحث والتنقيب والدراسة عن هذه الوسائل التي لم يعلن عن معظمها، وبالطبع ليس المجال هنا لذكرها بالتفصيل، فهذا ليس هدفنا، ولكن الذي نود إثارته هو طرح وسائل هذه السياسة بشكل عام لتكون نموذجاً يحتذى في العلاقات بين الدول، في عالم بات يصحو كل يوم على أنباء القتل والدمار والفوضى الأمنية. من أهم الوسائل التي تتبعها دولة الإمارات في تنفيذ سياستها الإنسانية، والتي حرصت قيادتها على أن تكون بعيدة عن الدعاية والإعلام، خاصة أن الهدف منها إنساني الطابع وأخلاقي التوجه، يبرز الآتي: * المساعدات الإنسانية لمواجهة الكوارث الطبيعية كالزلازل، وتراوح بين المساعدات العينية كالملابس والأغطية ومراكز الإيواء والأدوية، بل وإرسال أطقم عالية التدريب للمساعدة على إنقاذ المنكوبين، ثم المساعدات المالية التي ليس لها حدود وتتركز أساساً في عمليات إعادة بناء ما تم تدميره. * المساعدات الإنسانية للمدنيين من منكوبي العمليات الحربية والقتالية، حيث تعمل الأجهزة الحكومية المعنية في دولة الإمارات بكل جد وبسرعة خيالية للقيام بمهام إعادة الإعمار بما فيها مطالب البنية التحتية والمستشفيات والمدارس، لرفع المعاناة عن كاهل الحكومات التي تأثر مواطنوها من هذه الحرب، بل إن شيوخ الإمارات أنفسهم وأم الإمارات يبادرون إلى تقديم المساعدات المباشرة انطلاقاً من تعاليم حكيم العرب الذي كان القدوة والمثل في إنكار الذات ومد يد العون في كل وقت. * المنح لمختلف الدول لاستكمال المشروعات الوطنية التي تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، وتزيد من مستوى دخل المواطنين، خاصة في مجال الزراعة وتوفير المياه. * الإسراع بتقديم الودائع لبنوك بعض الدول العربية للحفاظ على قيمة عملتها من جانب وتشجيع الاستثمار الداخلي من جانب آخر في هذه الدول. * بناء المطارات المدنية التي تشجع حركة التنقل من وإلى الدول التي تعاني تواضع شبكة مطاراتها أو تدميرها من جراء الصراعات المسلحة، وذلك لتضمن استمرار روابط هذه الدولة مع العالم الخارجي، وتوفر لها سهولة نقل البضائع والاحتياجات. * المشاركة في قوات حفظ السلام أو مشروعات إزالة الألغام، انطلاقاً من قدسية حقن الدماء البشرية، والحد من الخسائر المادية والمعنوية. لقد حاولت في هذا المقال التعرف على منطلقات ومرتكزات السياسة الإنسانية لدولة الإمارات العربية المتحدة، ووسائل وأساليب تنفيذها، ربما تكون نموذجاً يحتذى في التعامل بين الدول، ويكون ذلك إيذاناً بظهور نظرية في العلاقات الدولية لم يدركها كثير من المنظرين السياسيين في غمرة الاستغراق في دراسة ونقد النظريات التقليدية.