مثلما كان صعود باراك أوباما وفوزه بالترشيح الرئاسي عن حزبه الديمقراطي، معجزة سياسية -إذا ما عدنا بالذاكرة 43 عاماً إلى الوراء حيث لم تكن الحقوق السياسية للأفارقة الأميركيين مؤمّنة حينها- فإن وصول منافسه جون ماكين إلى نهائيات الترشيح عن حزبه الجمهوري، يعد معجزة هو الآخر، على الصعيدين السياسي والشخصي معاً. فقبل عام واحد فحسب، لم تكن حملة ماكين الرئاسية سوى نكتة سياسية مثيرة للضحك في نظر كثير من الخبراء والمراقبين السياسيين. غير أن ما حدث يعد إحدى أكثر مفاجآت التاريخ السياسي الأميركي إثارة للدهشة والتأمل. والمعلوم عن الحملات الانتخابية الرئاسية الأميركية، أن الفوز النهائي بها غالباً ما يحدده أسلوب العمل والنتائج التي تفضي إليها الانتخابات التمهيدية. بالنسبة لباراك أوباما، فقد انتهت حملته التمهيدية، وكأن من نظموها وقادوها أفراد فرقة عسكرية عالية التنظيم، عازمة على الثبات في أرض المعركة حتى الرمق الأخير، ولها من المهارات في جمع الأموال والتبرعات وتسجيل الناخبين والقدرة على الوصول بهم إلى صناديق الاقتراع، ما لا يستهان به. وفي المقابل بدا أعضاء فريق حملة ماكين وكأنهم مجموعة من الناجين من موت محقق، وهم يتشبثون بالمزايا الشخصية لمرشحهم أكثر مما يعولون على أهمية جمع الأموال والتبرعات وطرق أبواب الناخبين وإجراء المكالمات الهاتفية الرامية لاستقطاب الناخبين، مثلما هو معهود في الوسائل الانتخابية التقليدية. وفي هذا بالطبع ما يثير قلق بعض الخبراء الاستراتيجيين المحافظين، الذين لاحظوا شبه غياب تام في حملته التمهيدية لجهود الوصول إلى الناخبين وحملهم على الذهاب إلى صناديق الاقتراع. لكن مع ذلك، كان يتحدث أعضاء فريقه بثقة عالية في الفوز قبل الإعلان عن نتائج السباق الرئاسي التمهيدي، وإن كان ذلك قد تحقق على نحو مغاير للنهج التقليدي الذي درجت عليه حملتا الرئيس بوش في عامي 2000 و2004. والتعويل في كل هذه الثقة له علاقة كبيرة بمزايا شخصية ماكين. والشاهد أن خبرته الحربية بالذات، خلافاً لما هو عليه حال الكثير من القصص الحربية الأخرى، لها قدرة مذهلة على الصمود والإدهاش أمام محك الاختبار الفعلي. وربما لا تعد الجسارة البدنية ولا شدة العزم الذهني من المتطلبات الحاسمة واللازم توفرها في من يتطلع إلى تولي المنصب الرئاسي، غير أنها تظل من السمات التي لا تنفصم عن شخصية هذا السيناتور القادم من ولاية إلينوي، وهو يشق طريق صعوده الأسطوري إلى البيت الأبيض. وفي هذه المزايا ما يجعل من مجرد انتخاب ماكين في مرحلة الترشح الرئاسي حدثاً تاريخياً يعيد إلى أذهان الأميركيين سيرة بطولاتهم السابقة في حرب فيتنام. بل يجب القول إن كل هذه الخبرات الشخصية والسياسية معاً، جعلت من ماكين ذلك المرشح الرئاسي المدفوع بفطرته وسجيته، أكثر مما تدفعه الأيديولوجيا والمواقف السياسية المسبقة. فهو على قدر كبير من التصالح مع نفسه في المقام الأول، وله من استقامة السلوك ما يجعله عصياً على قبول ما يتعارض مع مثله الأخلاقية والسياسية. وهذه هي السمات التي ميزته عن كثيرين غيره من زملائه المحافظين من المشرعين في مجلسي النواب والشيوخ، مع العلم أن مواقفه "المفارقة" هذه كادت أن تقصيه عن حزبه الجمهوري عام 2001. والحقيقة أن ماكين بدا أقرب إلى إصلاحي شعبوي محافظ، يخوض صراعه الخاص ضد تمركز المصالح الحزبية الأنانية الضيقة التي باتت تهدد الصالح العام لبلاده. وقد تبدت هذه السمات -بل المثل والقيم الشخصية السياسية- في مواقف ماكين، ابتداءً من تصديه لشركات التبغ الكبرى بتنظيمه حملة متواصلة ضدها، مروراً بغضبته الشهيرة على تضخم رواتب ومخصصات المدراء التنفيذيين للشركات، وصولاً إلى دعمه غير المحدود لسياسات رفع كفاءة استهلاك الوقود وتبني استراتيجيات التجارة في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. غير أن لهذه المزايا والخبرات الشخصية التي أدت دورها على أكمل وجه في المرحلة التمهيدية من حملة ماكين، حدوها الطبيعية في نهاية الأمر. ولا شك أن الفوز بالمعركة الفاصلة يطالبه بالتنظيم على نطاق قومي. فالتنظيم هو السبيل إلى تحقيق النهج "الماكيني".